الخميس، 10 يناير 2013

يعظكم لعلكم تذكرون


ألفاظ أحلى من الشهد، وأرق من النسيم، كلمات تتسلل إلى القلب، وتنقدح في الفؤاد، وتسكن في الضمير؛ قد يجتهد العالم، وقد يبدع الخطيب، وقد يتأنق الواعظ، ولكن لا أقوى ولا أجمل ولا أزكى ولا أكمل من الموعظة حينما تكون من الله، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِن اللهِ حَدِيثَاً) [النساء:87].
هذه الموعظة نسمعها مرارا وتكرارا لأنها تدور على ألسنة الخطباء، ويحلو لكثير منهم أن يرددها في خطبه، ويروى أن أول من استعملها في الخطب وأمر بها عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-، إنها آية واحدة، ولكنها جمعت الدين، ولخَّصَت الإسلام، وأوجزت الشريعة، وشملت المنهج، ووضحت المبدأ، وشرحت السلوك وبينت الأخلاق، وحددت المثل، ورسمت المعالم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
الموعظة ربانية، والخطبة قرآنية، وقد كانت هذه الآية سببا في إسلام أحد الصحابة، وتمكُّن الإيمان في قلبه، وهو عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ‏ حيث كان بجانب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نزلت عليه هذه الآية، فلما قرأها عليه تمكنت من ضفاف قلبه، واستولت على فؤاده، واستقر الإيمان في نفسه، وزُرعت محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجدانه، ويقول عنها ابن مسعود -رضي الله عنه-: ‏ أجمع آية في القرآن.
وقال قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به، ويستحسنونه، إلا أمر الله به في هذه الآية؛ وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق، ومذامها.
ويقول السعدي- رحمه الله- صارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، ولم يبق شيء إلا دخل فيها، فهي قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات.
قال تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]، بَيَّنَ تعالى أنه أنزل كتابه تبيانا لكل شيء، فجاءت هذه الآية شرحا موجزا لما اشتمل عليه هذا الكتاب، ولما حواه ذلك التنزيل، فهو يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
ولو أردنا أن نعطي هذه الآية حقها من الشرح، ونصيبها من التفصيل، لاحتجنا -لا أقول إلى عشرات الخطب- إلى مئات الخطب، وآلاف الكلمات، فالحديث عنها حديثا وافيا شافيا كافيا هو الحديث عن الدين كله، والإسلام جميعه، بل إن ما خطبناه من الخطب، وما سوف نخطبه، لا يخرج عن فحواها، ولا يبعد عن معناها، ولا يجاوز مغزاها؛ ولكنه حديث موجز، وشرح مختصر، وبيان سريع، لنستفيد من العظة، ونقف على العظمة، ونتأمل البلاغة، وننظر إلى الفصاحة، ونرى أسرار البيان، ودلائل الإعجاز.
أمر تعالى بثلاثة أوامر، أمرين أساسيين وتكملة، ونهى عن ثلاثة أشياء، شيئين أساسيين وتكملة.
بدأت الآية بالجملة الاسمية المؤكدة إعلانا بشأنها، وتأكيدا على سموها، ثم ذكر لفظ الجلالة "الله" ليكون الأمر أقوى أثرا، وأسرع قبولا، وأجدر امتثالا؛ فلم يقل عليكم بالعدل، أو أُمرتم بالعدل، وإنما صرح بالآمر الناهي؛ ليعرف قدره، ويمتثل أمره، (إن الله يأمر)، فهو أمر وليس إخبارا أو ندبا أو بيانا لمكارم الأخلاق فقط، بل هو أمر يجب أن يطاع.
(بالعدل)، فهو روح الحياة، وقوام الدنيا، وأساس الدين؛ والله تعالى حكم عدل، والسماوات والأرض قامتا على العدل، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلَاً) [الأنعام:115]. والعدل : هو إعطاء الحق إلى صاحبه، وهو بمعنى المساواة والإنصاف.
وأعدل العدل عدل الإنسان مع ربه جل وعلا، بأن يعبده حق عبادته، ويوحده، ولا يجعل له ندا، ولا يرتضي له شريكا، فهو الخالق الرازق، المنعم المتفضل، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، فمن أشرك معه غيره، فقد خالف مقتضى العدل، ومال إلى الظلم والجور والطغيان، فالإنسان مطالب بالعدل مع نفسه: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، ومع ربه، ومع الخلق.
فالعدل صفة كمال وجمال، ولا بد أن تقوم حياة المسلم على العدل في كل أفعاله وأحواله، وأحكامه وأقواله، عدل في الأقوال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152]، وعدل في الكتابة: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ) [البقرة:282]، وعدل في الأحكام : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، وعدل مع الأعداء: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، وعدل في الصلح بين المسلمين: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9]، وعدل مع النساء: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3]، وعدل مع الأبناء: "اتقوا الله، واعدلوا بين أبنائكم" متفق عليه.
فالعدل هو الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والقريب والبعيد، والغني والفقير، والقوة والضعف، إنما تمضي قاعدة العدل في طريقها، وتطبق على كل الناس والأجناس، وتكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان عادل للكل، فكم من دول تدعي أنها راعية العدل، ورائدة المساواة، وهي تكيل بمكيالين، وتنظر بنظرين، وتتعامل بأسلوبين، عدل مع من تحب وتهوى أو تجد متاعها عنده، وظلم مع من تكره وتبغض، أو من يخالف هواها، ويحيد عن رضاها، أو من قالت له: هيت لك، فقال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي.
وإن الله تعالى ينصر الدولة العادلة حتى لو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة حتى ولو كانت مسلمة، وكم من ولاة يدعون العدل مع شعوبهم، وهم فجَرة ظلَمة، سفاكون باطشون مصاصو دماء، يمتصون عرق الناس، ويبتزون حقوق الضعفة، ويُعملون أسواط الظلم والجور والبغي في عباد الله؛ وكم من أناس يدعون العدل في إداراتهم ومؤسساتهم وشركاتهم وطلابهم وزوجاتهم وأبنائهم، والعدل بريء منهم براءة الذئب من دم قميص يوسف.
ولكن أين هؤلاء جميعا من الحكَم العَدْل -جل شأنه، وعظم سلطانه- الذي إذا ارتفعت إليه دعوة المظلوم قال: "وعزتي وجلالي لأنصرنَّكَ! ولو بعد حين"، والذي يقول: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. إن الله -جل وعلا- أمر بالعدل، فويل لمن خالف أمره، وتنكب هديه، وتمرد على شرعه! .
ولما أمر تعالى بالعدل، بيَّن أن هنالك مرتبة أسمى ودرجة أعلى، وهي الإحسان، فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه؛
ولذلك ذكر الإحسان بعد العدل، تذكيرا به، وتنويها بشأنه، فهو يلطف حدة العدل الصارم الجازم أحيانا، وهو يدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه طلبا للأجر، وطمعا في المغفرة، وإيثارا لود القلوب، ورأبا لصدع النفوس، وشفاء لغل الصدور.
والإحسان باب يلجه من أراد أن يأتي بما فوق العدل الواجد، وأعظم من الإنصاف المتحتم؛ ليكسب فضلا، أو يداوي جرحا؛ ولذلك يقول تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل:126]، هذا هو العدل، (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل:126]، هذا هو الإحسان. ويقول تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
 فالإحسان فوق العدل منزلة، وأسمى منه خلقا، والإحسان يختلف معناه باختلاف السياق الذي يرد فيه، فإن ورد مقترنا بالإيمان والإسلام كان المراد به الإشارة إلى المراقبة والتقوى وحسن الطاعة، وذلك مثل جوابه -صلى الله عليه وسلم- لجبريل حينما سأله عن الإحسان، قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ وإذا ورد الإحسان مطلقا فالمراد به فعل كل ما هو حسن، وكل ما هو حسن يرجع إلى القاعدة الأولى، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا أحسن المسلم في أمر من الأمور فهو ممتثل لتلك القاعدة، وهو من المحسنين.
والإحسان من أفضل منازل العبودية، لأنه لب الإيمان، وروح الإسلام، وكمال الشريعة، وهو يدخل في سائر الأقوال والأفعال والأحوال، وأعظم درجات الإحسان هي الإحسان مع الله -جل وعلا-، ثم إحسان المرء مع نفسه وأهله وسائر المخلوقين، حتى يشمل البهائم والعجماوات، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح" أخرجه مسلم.وقد ورد في الحديث الصحيح: "أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حارٍّ يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها" رواه مسلم.
وكل أصول وفروع المعاشرة وآدابها، وكل قوانين التعامل، ترجع إلى الإحسان، فهو يشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا، بل وعلاقاته بسائر المخلوقات.
والمحسن محبوب من المخلوقين، ومحبوب من الخالق، ولذلك كانت مرتبة المحسنين عند الله تعالى عظيمة، ومرتبتهم كبيرة، ودرجاتهم عالية، قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60]، أي ليس من جزاء لإنعامي عليكم بالإيمان والتوحيد إلا الجنة، وبين تعالى أنه مع المحسنين بتوفيقه وحفظه وتأييده، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، وأعلن -جل وعلا- محبته للمحسنين في أكثر من آية فقال: (واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]، وأخبر تعالى أن رحمته قريبة من المحسنين، فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِن الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، وطَمْأَنَ المحسنين بأن إحسانهم محفوظ، وعملهم مشكور، وفعلهم مبرور، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود:115]ـ، بل أدخل السرور عليهم، وأعلن البشارة لهم، فقال في آيات كثيرة: (وَبَشِّرِ المحْسِنينَ) [الحج:37 وغيرها].
 ثم بين جل وعلا نوعا من أنواع الإحسان، وهو إيتاء ذي القربى، وهو داخل في مضمون الإحسان، ولكن ذكره الله تعالى تنبيها عليه، وتذكيرا به، وإعلاء لشأنه، فإن البذل والعطاء والفضل والإحسان يجب أن ينطلق من القريب، ثم يتسع بعد ذلك ليشمل البعيد، (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) [الإسراء:26]، وقد خص الله تعالى ذا القربى لأن الإحسان إليه مما تكثر الغفلة عنه، ويتهاون الناس به، فيهتمون بالبعيد وينسون القريب؛ لاعتبارات كثيرة، ولقد كان من خلق الجاهلين أنهم يقصدون بوصاياهم وأموالهم أصحابهم من وجوه القوم، وعِليَة الناس؛ لاجتلاب المحمدة، وحسن الذكر، والتباهي، فذكر الله العدل والإحسان، وبيَّن أن من بين جنس العدل والإحسان ومن أتمه الإحسان إلى ذي القربى، تنبيها للمؤمنين بأن القريب أحق بالإنصاف من غيره، وأولى بالإحسان من سواه.
(وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90]. إذا نهَى الله تعالى عن أمر من الأمور فإنه يجب الانتهاء عنه، وقد جمع أسباب الشر، ودواعي الردى، وأخلاق السوء في هذه الآية، ناهيا عنها، ومحذرا منها.
ومن ذلك الفحشاء، وهي اسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأعراف:33]، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأنعام:151]؛ فكل أمر عظم قبحه، وكبر فساده، هو من الفواحش، ومما خص بالفحشاء في الغالب، فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش، فيه تجاوز للحد، فإذا أطلقت الفاحشة، فالمقصود بها الزنا والعياذ بالله، وقد حذر الله تعالى منه، وبين سوء عاقبته، فقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:32].
والمنكر : هو كل فعل تنكره الفطرة السليمة، والنفوس القويمة، وتنكره الشريعة، فالشريعة هي شريعة الفطرة والحق، والخير والجمال والكمال.
وبعد أن ذكر الله تعالى الفحشاء والمنكر، خص بالذكر نوعا من أنواع الفحشاء والمنكر، وهو البغي، لأنه مما تنساق النفوس إليه، وتغفل عن قبحه وعاقبته، وهو الاعتداء في المعاملة، إما بغير ذنب، وإما بوجود ذنب يقابل بعقاب جائر مفرط، فالبغي هو الظلم والجور، وتجاوز الحق، وتنكب العدل، وهو يشمل كل اعتداء على الخلق في الدين، والدماء، والأموال، والأعراض، وغيرها.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي، وما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة ثم يقوم أو يكتب له الفلاح.
وإن الفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، والمنكرات المقيتة، مهما بلغت قوتها، ومهما يستخدم من الوسائل لحمايتها؛ وانظر إلى الغرب الذي وصل إلى الحضيض، وغاص في أوحال الفواحش والمنكرات، بدأ الناس الآن يضجون بذلك، ويبحثون عن المخرج، ويفتشون عن النجاة، ويتطلعون إلى مجتمع شريف عفيف، تقي نقي، بعد أن اكتووا بنار الفواحش، واصطلوا بجحيم المنكرات، وفشت فيهم الأمراض الفتاكة، وشاعت فيهم الأخلاق المقيتة، وخربت نفوسهم وأظلمت قلوبهم، وضاقت صدورهم، وفسدت حياتهم.
إن هذه الآية موعظة صادقة للمؤمنين، وتذكرة ناصحة للمسلمين، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
ومما في هذه الآية من ضروب البلاغة ما يلي:
أولا: الإيجاز الذي بلغ حد الإعجاز، حيث جمعت المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة، وهذا إيجاز بالمعنى، وفيها إيجاز بالحذف، في مثل قوله : (وينهى)، فلم يقل وإن الله ينهى، وقوله : (يعظكم) فلم يقل : إن الله يعظكم.
ثانيا: استعمال أداة التعريف "أل" في كل الكلمات : العدل، الإحسان، الفحشاء، المنكر، البغي، إلا الإيتاء؛ لأنه خصصه وعرفه بأنه إيتاء ذي القربى، وهذا التعريف يدل على العموم والاستغراق، فلم يقل يأمر بعدل أو إحسان، إنما بالعدل كل العدل، والإحسان كل الإحسان، وينهى عن الفحشاء كل الفحشاء، والمنكر كل المنكر، والبغي كل البغي.
ثالثا: استعمال الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث والاستمرار، فلم يقل أمر أو نهى، بل يأمر، وينهى، ويعظ.
رابعا: ما يعرف في البلاغة بالطباق، وهي هنا في قوله : يأمر، وينهى. وما يعرف بالمقابلة، وهي هنا بين ثلاثة أوامر، وثلاثة نواه.
خامسا :الترتيب والتسلسل المنطقي البديع، فلما أمر بالعدل، بيَّن أن فوقه مرتبة، ودعا إليها ضمنا، وهي: الإحسان؛ ولما ذكر الإحسان بين نوعا من أهم أنواعه يغفل عنه الناس، وهو الإحسان لذي القربى. ولما نهى عن الفحشاء، دفع ما قد يتوهمه بعض الناس من أن النهي فقط عن فاحشة الزنا فبين أن النهي يشمل جميع المنكرات، ولما نهى عن المنكر أشار إلى منكر من أعظم المنكرات، قد يغفل عنه الناس وهو البغي والظلم، والتجاوز، فبدأ الأوامر بالعدل وختمها بالنهي عن الظلم والطغيان.
سادسا: حسن النسق، وجمال الترتيب، وعطف الجمل بعضها على بعض، والبدء بالأمر بالمحبوبات، ثم العطف عليه بالنهي عن المكروهات؛ ولم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه، ولم يتقدم ما يجب تأخيره.
ثم ختم ذلك كله بعبارة مستحسنة، وجملة لطيفة، وخاتمة طريفة، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاحتوت الآية على ضروب من المحاسن والقضايا، وأشتات من الأوامر والنواهي والمواعظ والوصايا، مما لو بُث في أسفار عديدة ما كفتها.
فسبحان من ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، وكلامه وأحكامه! وتبارك من جعَل كلامه هدى وشفاء، ونورا وفرقانا وبيانا، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23].

وقفة مع حديث: الحلال بيِّن


هذه خواطر عابرة، وفوائد عابقة، تبدو لنا في نَصٍّ بيانيٍّ ساحر، وتوجيهٍ نبويٍّ آسِرٍ من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-؛ إنه من الموجز المعجز، إنه من دلائل نبوبته -صلى الله عليه وسلم-، ومن روائع بلاغته، وعظمة منطقه؛ كلمات سلسه، وألفاظ عذبه، وعبارات منسابة، ومعان جذابة.


وَكَلَامُهُ السِّحْرُ الحَلالُ وإِنَّهُ *** لَمْ يَجْنِ قَتْلَ المسْلِمِ المتَحَرِّزِ
إنْ طالَ لم يُمْلَلْ وَإنْ أَوجَزْتَه *** وَدَّ المحَدِّثُ أَنَّهُ لمْ يوجِزِ


عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبِهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقىٰ الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمىٰ يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمىٰ، ألا وإن حمىٰ الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" متفق عليه.


أول ما يبهرك في هذا الحديث عذوبة كلماته, وروعة ألفاظه, ودقة اختيارها, ولو أردنا أن نوفي هذا الحديث حقه لوقعنا مع كل كلمة منه على حدة, إنه حديث فيه من الروعة والجمال والإيجاز والإعجاز ما لا حد له، وأدعوك إلى قراءته أكثر من مرة، والوقوف مع كل كلمة، لترى الروعة، وتجد المتعة.


هذا الحديث اعتبره العلماء يمثل ثلث الدين، وهو كذلك، يقول الإمام أحمد: أصول الإسلام علىٰ ثلاثة أحاديث: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وحديث: "الحلال بيّن"؛ فهذا الحديث في السنة كسورة الإخلاص في القرآن.


الحلال بيّن: بدأ به لأنه الأصل؛ فالأصل في كل شيء الحل حتىٰ تثبت حرمته. ولو تأملت في النعم لوجدتها حلالاً إلا ما ندر، وهذا النادر لم يحرَّم إلا لأن فيه ضرراً علىٰ الإنسان في حياته أو دينه أو عقله.


اذهب إلىٰ أكبر مركز من مراكز التسويق، ثم تأمل ما الحرام فيه؟ ستجدها أشياء معدودة جداً قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ أما ما عدا ذلك من نِعَمٍ في المأكَلِ والمشرب والملبس فهي حلال؛ إذ ليس في ديننا حرج أو مشقة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف:32].


بيِّن: البيان بمعنىٰ الوضوح، فهو بَيِّن لأن الله تعالىٰ بيَّنَه، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل:89]، وقال تعالىٰ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة:115].


وهو بَيِّنٌ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيَّنَهُ للناس، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44]، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تركتُكُم علىٰ البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني في الصحيحة.


ثم إن كل ما أحله الله -عز وجل- للناس تجده قريبا من النفوس السوية، والفِطَر السليمة، بخلاف الإثم والحرام؛ فإنه يتردد في الصدر، ويتلجلج في الفؤاد، ويكره المرء أن يطلع عليه الناس.


والحرام بيِّن: الحرام هو الممنوع، وهو كل ما نهىٰ الله تعالىٰ عنه في كتابه أو علىٰ لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالىٰ: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) [الأنعام:119].


وبينهما أمور مشتبهات: أمور تجمع كل شيء من قول أو فعل، أو أكل أو شرب، أو بيع أو شراء، أو ما عدا ذلك.


مشتبهات: المشتبه هو الأمر الذي لم يظهر للإنسان علىٰ حقيقته، ولم يتبين له فيه الصوابُ أو الحِلُّ والحرمة.


لا يعلمهن كثير من الناس: ولكن هنالك من يعلمها، فإن من توفيق الله تعالىٰ وفضله علىٰ هذه الأمة أنه لا يزال فيها من العلماء الربانيين من يعلمون مراد الله، ويبصرون عباد الله بما وهبهم الله من علم، وآتاهم من حكمة.


فمن اتقىٰ الشبهات: اتقىٰ؛ تثير في النفس معنىٰ المراقبة لله -عز وجل-، واستحضار هيبته، واليقين بعلمه، وأنه يعلم الجهر وما يخفىٰ، وأنه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].


التقوىٰ تذكر في القرآن في أكثر من مائتين وستين موضعاً؛ والجنان أعدت للمتقين, قال تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) [النبأ:31-36]، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].


عمر -رضي الله عنه- حينما سأل أُبيّ بن كعب عن التقوىٰ، قال له: هل سرت في طريق ذي شوك؟ قال عمر: نعم. قال: فماذا فعلت؟ قال: شمَّرتُ واجتهدت. قال أُبَيّ: فتلك هي التقوىٰ.
إذاً فاتقاء الشبهات يحتاج إلىٰ صبر ومعاناة ورَوِيَّة، وتحسَّب لكل خطوة أو قول أو فعل.


فقد استبرأ لدينه وعرضه: طلب البراءة والنزاهة لدينه، وهو الأساس والأهم، ولعرضه: وهو في المرتبة الثانية، فإن المؤمن لا يجوز له أن يعرض عرضه لحديث الناس بما يثيره من الشكوك حوله.


قد يستبرئ الإنسان للدين، ولكنه لا يهتم للعرض، وهذا خطأ! فقد يقول في نفسه: طالما أنني أعرف نفسي، وأنني لم أرتكب المحرم، فلا عليَّ من كلام الناس، فيجلس في أماكن مشبوهة، أو يخالط أناسا مشبوهين، أو يأتي بتصرفات مشبوهة دون اهتمام لكلام الناس، وهذا منهج خاطىٰء.


إن المسلم إذا ظل طيب السيرة، حسن السمعة، جميل الذكر، فذلك أقوىٰ لوجوده، وأجمل لمنهاجه، وأسرع لقبول دعوته في الناس، فمن ارتكب الشبهات فقد عرض نفسه للتهم والقدح والطعن، يقول بعض السلف: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن.


ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام: الوقوع في الشبهات تيسير وتسهيل للوقوع في الحرام، وفي بعض روايات الحديث: "ومن اجترأ علىٰ ما شك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان"، وهذه نتيجة حتمية؛ فكل من وقع في الشبهات سيقع في الحرام لا محالة، وتعبيرات النبي -صلى الله عليه وسلم- دقيقة ومنتقاة، فلم يقل فمن أتىٰ شبهة أو فمن عرض لشبهة؛ لأن هذا أمره أهون، ولكن المشكلة فيمن هو واقع في الشبهات، مُتَرَدٍّ فيها، متلبس بها.


لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام علىٰ غاية الحذر والمراقبة والورع، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأنقلب إلىٰ أهلي فأجد التمرة ساقطة علىٰ فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشىٰ أن تكون صدقة فألقيها" متفق عليه.


وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- أصابه أرق في ليلة من الليالي فقالت له بعض نسائه: يا رسول الله! أرقت البارحة، فقال: "إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه" أخرجه أحمد وقال الهيثمي: رجاله موثوقون.


انظر إلىٰ هذه المراقبة الحقة، والورع الصادق، ثم انظر إلىٰ حال كثير من الناس اليوم وانهماكهم في الشبهات دون تهَيُّبٍ أو تخوُّف، يترك -صلى الله عليه وسلم- التمرة مع أنه قد يكون بأمس الحاجة إليها من شدة الجوع ولوعته، فقد كان يمر الشهر والشهران ولا يوقد في بيته النار، وهنالك أناس أُتخمت بطونهم، وتضخمت أرصدتهم، وهم مع ذلك لا يترددون في التهام ما يبدو أمامهم دون تبصُّرٍ لأمرِ حِلِّه وحرمتِه؛ سئل الإمام أحمد عن الثمرة يلقيها الطير، فقال: "لا يأكلها، ولا يأخذها ولا يتعرض لها".


وبعد بيان هذا المعنىٰ العظيم, يقف -صلى الله عليه وسلم- ليعطي صورة جميلة، ويرسم لوحة هائمة، هذه استراحة قبل نهاية الحديث، استراحة مع الطبيعة الآسرة، وهكذا كانت أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- يراعي فيها هذا الجانب الجمالي التصويري الرائع؛ فأنت تجد لكلامه -إضافة إلىٰ المعنىٰ الجليل- مبناً جميلاً، فتظفر بفائدة دينية، ومتعة فنية.


كالراعي يرعىٰ حول الحِمىٰ يوشك أن يقع فيه: أكثر من يستمتع بهذه الصورة من عرفها علىٰ الطبيعة، وأكثر ما يكون ذلك في القرىٰ وفي البادية، حيث يكون هناك بعض أودية أو جبال أو أراض تُحمَىٰ ويمنع الرعي فيها أو الاعتلاف منها لمصلحة معينة لشخص أو قبيلة أو قرية، وتسمىٰ: الحمىٰ؛ ومَن وقع في هذه الحِمىٰ في فترة المنع فإنه يعاقب ويعزر، فيأتي بعض الرعاة بماشيتهم يرعون حول هذا الحمىٰ.


والأغنام حينما ترىٰ خضرة المرعىٰ تهرع إليه، وتنقض عليه، ومهما كان حزم الراعي وحرصه فإنهن يتفلتن من يده ويقعن في الحِمىٰ، وقد كان بوسعه أن يسرح بها في أرض الله الواسعة خير له من هذا العناء والتوتر والمجازفة!.


وهكذا النفس إذا اقتربت من مواطن الشهوات ومراتع المغريات فإنه يستهويها البريق, والأَولى أن يبتعد بها عن مواطن الخلل وأماكن الزلل؛ لكي لا يستنزلها المظهر فتودي بصاحبها.


ألا وإن ولكل ملك حمىٰ: ماذا تفيد هذه العبارة، وما هو القصد منها؟ إنها وقفة رائعة وإشارة ملفتة لكل إنسان، وكأنها تبث في قلب المرء موعظة بليغة معناها: أيها المرء، كما أنه لكل ملك من ملوك الدنيا حِمىٰ لا يجرؤ أحد علىٰ القرب منه فضلا عن انتهاكه أو الوقوع فيه، فإن أجَلَّ مَن يجب أن يخاف منه، وأعظم من يجب احترام محارمه، هو ملك الملوك -جل وعلا-؛ فإن له حِمىٰ ممنوعاً محظوراً، وهو محارمه -جل وعلا-.


وقد حذر -سبحانه- في كتابه الكريم من الاقتراب من محارمه، أو انتهاك حدوده، فقال تعالىٰ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة:187]، وقال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه" متفق عليه.


إن من صفات المتقين، وسمات المؤمنين، أنهم أحرص الناس علىٰ البعد عن النيل من حدود رب العالمين، إنهم يحفظون حدوده، ويجتنبون محارمه، ويبجلون حماه، بل ويجعلون بينهم وبين الحرام سياجاً كبيراً من الحلال خشية الاقتراب من الحرام، يقول أحدهم: ما زالت التقوىٰ بالمتقين حتىٰ تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. وقال الآخر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال الآخر: لا يسلم للرجل الحلال حتىٰ يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال.


وبعد هذا البيان، وهذا المثال التقريبي، وهذا الشرح الجميل، فإن المعول كله علىٰ أمر هام، إذا صلح صلح كل شيء، وإذا فسد فسد كل شيء، فلا تنفع موعظة، ولا تجدي نصيحة، ولا تؤثر خطبة إذا لم يكن صالحاً، ولربه خاشعا، وهو القلب، فإذا صلح فهو الآمر والناهي، والرادع عن كل خلل، والمانع من كل زلل.


إن القلوب إذا زكت، زكت الجوارح، وحسنت الأعمال، لأن القلب ملك الجوارح، فهي تعمل بأمره، وتمضي بتوجيهه؛ وحينما صفت قلوب الصالحين أصبحت عامرة بخوف الله، مراقبة لجلال الله؛ يقول الحسن البصري -رحمه الله-: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا مضيت علىٰ قدمي حتىٰ أنظر علىٰ طاعة أو علىٰ معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت.


ويقول أحد السلف: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله -عز وجل-. وقيل لداود الطائي، وقد كان جالسا في الظل: لو تنحيت من الظل إلىٰ الشمس، فقال: هذه خطا لا أدري كيف تكتب. هؤلاء زكت قلوبهم، وصلحت جوارحهم، فأثمرت أعمالاً طيبة، وأقوالاً مباركة، وسيراً حميدة.

وقفة مع بعض أحاديث الصيام


هذه الجمعة آخر جمعة في شعبان، ثم نستقبل بمشيئة الله تعالىٰ شهر رمضان، هكذا مرت الأيام بسرعتها الغريبة، ودورتها العجيبة، فمرت سنة وكأنها أيام معدودة، ولكنها مع ذلك ثلاثمائة وستون يوماً؛ فيا بشرىٰ لمن زيَّنَها بالحسنات، وعمَّرَها بالطاعات، وأضاءَ حلكتها بنور إيمانه، وجمَّل ساعاتها بطُهْرِ إحسانه، سنة ذهبت فيها متاعبُ الطاعة، وبقِيَ أجْرها يُجَمِّلُ صَفَحَاتِ مُكْتَسَبِها، وانتهت فيها حلاوة المعصية، وبقيت لوثاتها تُسَوِّدُ صفَحَاتِ مُجْترحها.
ولكن الكريم -جل وعلا- هيأ لعباده موسماً للطاعة، ومغانم للأجر، وأبواباً للعطاء، يغفر بها خطاياهم، ويمحو بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم، ويزيد بها حسَناتِهم؛ ومن أعظم مواسم الخير وفيوض العطاء؛ شهر رمضان المبارك: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].
 والحديث مع رمضان، وعن رمضان، ولرمضان، ذو شجون كثيرة، ولكنني آثرتُ اليوم أن أقف وإياكم وَقَفَاتٍ عَابِرَةً مع بعض الأحاديث الماتعة، والآثار الرائعة، التي هتف بها محمد -صلى الله عليه وسلم- معطراً بها سمع الكون، متوِّجاً بها هام الدنيا، مُزَيِّنَاً بها جِيدَ الصِّيَام.
أقبل أعرابي علىٰ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! دُلَّنِي علىٰ عمل إذا عمِلتُهُ دخلتُ الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتُقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال الأعرابي: والذي نفسي بيده! لا أزيد علىٰ هذا شيئاً أبداً، ولا أنقص منه. فلما ولَّىٰ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أن ينظر إلىٰ رجل من أهل الجنة فلينْظُرْ إلىٰ هذا" متفق عليه.
يا الله! هكذا، بكل بساطة، بكل وضوح، بكل بهاء، بكل سناء! يوجز -صلى الله عليه وسلم- للرجل ويبشره بالجنة.
وحينما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أي الأعمال أفضل، قال: "عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له" أخرجه النسائي وصححه الحاكم وابن حبان.
وهذا حديث بديع من أحاديث الصيام فيه الهيبة والخوف من جهة، وفيه البشر والرحمة واللطف والعفو من جهة، وهو أن أناساً في زمن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه: يا رسول الله! هل نرىٰ ربنا يوم القيامة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم" وفي الحديث: "فوالذي نفسي بيده! ما منكم من أحد بأشدَّ مِنَّا شِدَّةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون معنا، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم" أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: "مالك؟" قال: وقعت علىٰ امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تجد رقبة تعتقها؟" قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال: لا. قال: فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم-. فبينما نحن علىٰ ذلك أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيها تمر، فقال: "أين السائل؟" فقال: أنا. قال: "خذ هذا فتصدق به". قال الرجل: علىٰ أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتىٰ بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك". أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتىٰ يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وَعَزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين!" أخرجه الترمذي وحسنه.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الصِّيَام من الأكل والشرب، إنما الصِّيام من اللغو والرفث" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق أبواب الحجيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطين، للهِ فيهِ ليلةٌ هِيَ خَيْرٌ مِن ألف شهر، مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِم" أخرجه النسائي وصححه الألباني.ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدَتْ الشياطينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّار، فلم يُفتَح منها باب؛ وفُتِحَت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغيَ الخير أقبِلْ، ويا باغي الشَّرِّ أقْصِرْ. ولله عُتَقَاءُ من النار، وذلك كُلَّ ليلة" أخرجه الترمذي، وحسَّنه الألباني.
شهر رمضان فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي مَن قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.موسم كريم، وخير عميم، وفضل عظيم، فرح به المؤمنون، وأنِس به المسلمون، واستبشر به المـــُوَحِّدُون؛ ولكن في القلوب لوعة، وفي الأعين دمعة، وفي الأنفس حسرة، وفي الأكباد حُرقة؛ بقدر سرور أمة الإسلام بشهر صيامها، وربيع قيامها، حزنها الذي يعتصر القلوب، وهمها الذي يعصف بالمشاعر، لجراحهم الراعفة، ودمائهم المهراقة، وحرماتهم المستباحة، وبلادهم الممزقة، وكراماتهم المهانة، يستقبلون هذا الشهر وإخوانهم في فلسطين والعراق وأفغانستان تفطر الأرض بدمائهم، وتزدحم الطرقات بأشلائهم.
إننا، حين نفرح برمضان، ونتهيأ لاستقباله، فإن بعض المسلمين قد اختلط عليهم رمضان بشعبان، وشوال بذي القعدة، فالأيام سواء، والليالي متماثلة؛ فالصوم دائم، والجـوع مستمر، والعطش دائب؛ بل ويضاف إلىٰ ذلك الخوف والهلع، والرعب والفزع، والحرب والدمار، والموت والضياع.
أيها المسلمون: إن من حِكَمِ شهر رمضان الترقِّي إلىٰ السمو، والإحساس بمعاناة الآخرين، والإدراك لآلام المتألمين، والتعود علىٰ التضحية، والتدرب علىٰ البذل؛ إنه يستثير الشفقة، ويحض علىٰ الصدقة، ويكسر الكبر، ويحجِّم البخل، وينهىٰ عن الأنانية.
فيا من تنعم وأنت تتجول في الأسواق، وتدفع أمامك بعربات قد ملئت بما لذ وطاب، وحُمِّلَتْ حتىٰ لَتَنُوءُ بالعصبة أولي القوة، تذكَّرْ أن إخواناً لك يحملون أمتعتهم علىٰ ظهورهم، ويهيمون في العراء، هرباً من الموت، وخوفاً من القتل، وبحثاً عن السلامة.
تذكر والخدم يحملون لك أنواع البضائع أنَّ هنالك من يحملون أطفالهم علىٰ ظهورهم، أو يحملون آباءهم وأمهاتهم، وقد أتعبهم الجوع، وأهلكهم العطش، وأضناهم السهر، وأرهقهم السير، وأفزعهم الخوف، وأذهلهم الموت؛ أجسامهم عارية، وأجسادهم واهية، وأقدامهم حافية، تيبَّسَتْ أطرافُهم، وتجمَّدَتْ أوصالهم، وجفت أرياقهم، وشحبت ألوانهم، وعظمت معاناتهم.
الأطفال يتضاغون عند أقدام آبائهم إن كان لهم آباء، والثكالىٰ ينثرن دموعهن، والجرحىٰ ينزفون، والمرضىٰ يستنجدون؛ ثم لا ترىٰ إلا أجسادا متناثرة، وجثثا متراكمة، وأشلاء ممزقة، ودماء منتشرة، وبيوتا مهدمة، وآمالا محطمة، فاحمد الله علىٰ العافية، ثم اجعل من دعائك وعطائك نصيباً لهم في شهر الدعاء والرجاء والعطاء.

نهاية رمضان


قبل أيام كنا نحتفي ونحتفل بقدوم شهر رمضان، وها نحن الآن نودعه، مرت أيامه، وانقضت ساعاته، وأزف رحيله؛ اليوم يُختَم القرآن، وغدا يختم رمضان، وبعد غد يختم العام، وبعده -أو ربما قبله- يختم العمر، كل ذلك كأنما هو أحلام، يعيش الإنسان سنوات طويلة، ويمر بأحداث كبيرة، ويحيا زمناً طويلاً قد يتجاوز الثمانين سنة أو التسعين أو المائة، ومع ذلك يرى أن ما مر من العمر إنما هو أحلام عابرة، وأيام معدودة.
وهكذا يكون إحساس الإنسان بالزمن، حتى يوم أن يقف بين يدي ربه فيُسأل عن عمره على ظهر الدنيا فيظن أنه كان يوماً أو بعض يوم! (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون:112-114]، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) [طه:102-104].
هكذا مرت أعمارنا، وهكذا انقضت أيامنا، وكأنها أحلام نسينا ما أودعنا فيها، نسينا ما عملنا، نسينا ما قدمنا، ولم يبق لنا منها إلا طيف ذكريات معينة؛ ولكن هنالك من أحصى علينا كل صغيرة وكبيرة، ولو نواجه ما عملناه في أسبوع لرأينا العجب العجاب، فكيف بما عملنا في عشرات السنين؟(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29]، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
هكذا تمضي السنوات، وهكذا تنقضي الأشهر، وهكذا تنصرم الأيام، وإن التفاوت والتمايز هو بالنظر إلى النتائج في ختام كل عام وكل شهر، بل وكل يوم، السنة تمضي ولن تعود، الشهر ينقضي ولن يرجع، لو بذلت الدنيا كلها لاسترجاع يوم مضى فلن يتم ذلك، فهي الحسرة والندامة والألم والله لمن انقضى شهره، وذهب يومه وهو في غفلة منه، فكيف إذا مضى وهو مشوه بالمعاصي، مسود بالذنوب، ملطخ بالآثام؟.
وإنما الفرحة والسرور، والأنس والحبور، والراحة والسلوان إذا غادر الشهر وغربت شمس اليوم، ولعله يتزين بأريج عملك الصالح، ويتطيب بشذا فعلك المبارك، ترتقي به درجاتك، وتقطع معاناتك، ويرضى عنك ربك، "ما من يوم ينشق فجره إلا ومناد ينادي: يا بن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى قيام الساعة".
يا الله! ما أعظم البشرى! وما أهنأ النتائج لمن اغتنموا شهرهم، وأطاعوا ربهم، وأحسنوا الصيام، واجتهدوا في القيام، وتدارسوا الوحي، وتفننوا في البذل والفضل والعطاء! مضى شهرهم وهو عنهم راضٍ، وبهم مسرور، فَرِحٌ بأعمارِهم، مُتَحَدِّثٌ عن أخبارهم؛ صبروا ساعات فظفروا برفعة الطاعات، يالها من أفراح! يا لها من مكاسب! يا لها من نعم! (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
هنيئاً لكم يا أرباب الطاعة، هنيئاً لكم يا أصحاب الصلاة، هنيئاً لكم يا قرّاء القرآن، هنيئاً لكم يا من بذلتم الأموال، وجدتم بالعطاء، وأفضتم بالإحسان، وصليتم التراويح، وتزودتم من الخير، وختمتم صيامكم، وحفظتم جوارحكم.
إنه، في يوم مثل هذا اليوم، في يوم الجمعة، ستقوم الساعة، وينفخ في الصور، ويبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ويعظم الهلع، ويكبر الفزع، وتطيش الأحلام، وتكون الجبال كالعهن المنفوش، والناس كالفراش المبثوث، ويقوم الناس لرب العالمين، وخشعت الأصوات فلا تسمع إلا همساً، في مثل ذلك اليوم ستأتون وأنتم بقلوب هادئة ونفوس مطمئنة، وأرواح مَرْضِيَّة.
تأتون والقرآن يضيء طريقكم، والصيام يحاجج عنكم، والصلاة تنير وجوهكم، والصدقة تظلكم، فيباهي بكم الرب، ويتنزل عليكم الرضا، وتحييكم الملائكة، وتُفتح لكم أبواب الجنان، (وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر:73-74].
إنه بقدر ما يمضك الألم، ويعتصرك الأسى، لمن فرطوا في الطاعة، وتكاسلوا عن الخير، وغفلوا عن رمضان، وناموا عن القربات، فإن الأعظم أسى، والأكثر حسرة، والأشد مصيبة، أولئك الذين جعلوا من هذا الشهر ميداناً للمعاصي، وتسابقاً للرذائل، وتباهياً بالغش، وتنافساً في الأهواء؛ لم يراعوا ديناً، ولم يحترموا شهراً، ولم يتقوا رباً.
يجاهرون بالمعاصي، ويتبجحون بالدنايا، الناس في صيام وهم في هيام، المؤمنون يسهرون على القيام، وهم يترنمون على الأنغام، العباد يرتلون القرآن، وهم يتمايلون على الألحان، الخيِّرون يتصدقون، وهم يتشدقون؛ ورَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يغفر له فيه، فيا للندامة، ويا للحسرة، ويا للخسران! هكذا غادر الشهر، هكذا مرت الأيام، فما أعظم الفرق بين أناس وأناس! وما أشد التباين بين فئام وفئام!.
ومع كل ذلك، فيا من فاتك الركب، وفاتك الحظ، وتجاوزتك الرحلة، فإنك في كنف رب رحيم، ومولى كريم، وعزيز غفور، لم يقفل في وجهك الأبواب، ولم يقطع عنك الأمل، ويوصد أمامك الفرص، بل ها هو لايزال يناديك، ويفتح لك الأبواب، ويزين لك التوبة، ويتحبب إليك بالنعمة.
هاهو يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ها هو يدعوك إلى رحمته، ويحذرك من القنوط (قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]؛ يسبغ عليك الألطاف، ويقبلك رغم الإسراف.
فتدارَك نفسَك، اغتنم حياتك، الحق بالقافلة، اكسب الفرصة، فقد بقي من الشهر بقية، ولو لم تكن إلا ساعة واحدة بادِر باغتنامها، فلعل الله يكتب لك فيها خيراً كثيراً؛ واعلم أن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، فلا تغرنك الأماني والآمال والتسويف، ولا يغرنك بالله الغَرور، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25].
أيها المؤمنون: لقد شرع الله في ختام هذا الشهر المبارك عباداتٍ عظيمةً، وأعمالاً كريمةً، يُختَم بها الشهر، وَيَعْظُمُ بها الأجر، وتزكو بها النفوس؛ ومن ذلك صدقة الفطر، التي هي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وشكر لله على النعمة، وإحسان للمسلم الفقير، وهي عن كل فرد صاع من البر أو التمر أو الأرز، أو غير ذلك من الأطعمة الطيبة. ووقت إخراجها يبدأ بغروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين.
ومما شرعه الله في ختام هذا الشهر التبكير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]؛ ومما شرعه الله في ختام الشهر صلاة العيد، وهي من تمام ذكر الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً كثرة الاستغفار، فإن الأعمال العظيمة دائماً تـُخْتَم بالاستغفار، نسأله -جل وعلا- أن يغفر لنا، وأن يتجاوز عنا.
ومن أراد أن يكون صيامه كصيام الدهر؛ فعليه بستٍّ من شوال.

موعظة وذكرى


الموعظة هي زاد القلوب، ودواء النفوس، وشفاء الأسقام، وبلسم الآلام، إنها الكلمة الحية، والعبارة النابضة، والجملة المفيدة؛ إنها استثارة المشاعر، ومخاطبة الوجدان، ومناجاة الضمائر، ولفت العقول.
إن الموعظة متى كانت صادقة قويمة، ناصحة حكيمة، نقيَّة سليمة، تنساب إلى القلوب، وتنسكب في المشاعر، وتمازج الأرواح، فهي خير دواء لكل داء؛ لأن القلب إذا أغلق عن المواعظ، وتنكر للتذكير، فلن يفيده بعد ذلك شيء، وصدق الله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
ولأهمية الموعظة ومنزلة النصيحة، ومكانة الذكرى، جاءت الكتب الربانية، والوصايا النبوية، محمَّلة بأريج الوعظ، مجملة بروائع النصح، مزينة بفرائد الكلام.
وجاء القرآن الكريم ليكون موعظة للناس، وذكرى، وشفاء لما في الصدور، إنه الموعظة الربانية الفريدة التي تزيد الذين آمنوا هدى، ولا يزداد بها الظالمون إلا نفورًا.
وبعث اللهُ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، ومعلمًا للحكمة، ومزكيًا للنفوس، وواعظًا للقلوب: (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء:63]، وأمَره تعالى أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد كان يتفنن في وعظ أصحابه، ويتفنن في اختيار الوقت المناسب، والمكان المناسب، والموعظة المناسبة؛ فكانت كلماته الواعظة تحيي الضمائر، وتوقظ القلوب، وتثلج الصدور، وتستدر الدموع؛ لقد كان يهتف بمواعظه إلى أسماع أصحابه، فإذا لهم خنين وأنين بالبكاء وهو معهم، بل لقد كان يعظهم حتى يقول أصحابه أحيانًا: ليته سكت! وذلك من شدة تأثير الموعظة عليهم، ومن شدة خوفهم عليه -صلى الله عليه وسلم-، ورحمتهم به، لما يرونه عليه من تأثر بما يعظ به.
ومن أهم منابر الوعظ، ومنافذ الذكرى التي كان يحرص عليها -صلى الله عليه وسلم- خطبة الجمعة، فقد كانت خطبة في مجملها مواعظ مؤثرة، ونصائح معبرة، يهز بها القلوب هزًا؛ بل لقد حفظ بعض أصحابه وبعض الصحابيات بعض سور القرآن الكريم منه -صلى الله عليه وسلم- من كثرة ما يرتلها على المنبر في خطبه، مثل سورة (ق)؛ وذلك لما حوته من المواعظ الرائعة، والنصائح النافعة، فهي تذكير بالموت، وتخويف بالآخرة، وتزهيد في الدنيا، وحث على الطاعة، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:19-22].
ولذلك فإننا بأمس الحاجة إلى الوعظ والتذكير، والتنبيه والتوجيه، والترغيب والترهيب؛ إنه لا يجب أن تطغى المواضيع الاجتماعية والسياسية على الهدف الرئيس من خطبة الجمعة وهو الموعظة والتذكير، وإيقاظ الضمائر، وتحريك المشاعر.
إن الجمعة زاد أسبوعي يجب أن يكون فيه ما يساعد المرء على القرب من ربه، والمبادرة بالتوبة، والمسارعة للطاعة، والحذر من التفريط، والتذكر للآخرة، والاستعداد ليوم المعاد، فالحاجة إلى ذلك ماسة في كل زمان ومكان، فكيف بها في زمن كهذا؟ أظلمت فيه القلوب، وجثمت الذنوب، وقربت الشهوات، وعظمت الشبهات، وهاجت المغريات، وتعلق الناس بالدنيا، ولاذوا بالمتع، وركنوا إلى اللهو، إلا مَن رحم الله.
. إن الدنيا مهما كانت، ومهما حسُنَت، ومهما تجمَّلت، فهي متاع قليل، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء:77]، فوصَفَ اللهُ جميعَ متاعها بالقليل، وما يؤتى الإنسان من هذا القليل إلا القليل، ثم هذا القليل -إن سلم الإنسان من المعصية- فيه فهو لعب ولهو وزينة، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الحديد:20]، ثم وصف تعالى الآخرة بأنها هي الحياة الحقيقة: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:٦٤].
 أين مَن يعلم هذه الحقائق، ويغلغلها في قلبه، ويسكنها في ضميره، فلا تغره الدنيا، ولا تلهيه المصالح، ولا تـخدعه الشهوات، ولا يستفزه البهرج؟ فتأمل أيها العاقل! هل آتاك الله من الدنيا مثل ما آتى سليمان بن دواد -عليه السلام-؟ حيث آتاه الله ملك جميع الدنيا، والإنس والجن والطير والوحوش، والريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم زاده الله تعالى ما هو خير منها فقال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39]، ومع ذلك لم يغتر بها سليمان، ولا عدها ميزة وكرامة، فاشتغل بها وتاه بها، بل قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:٤٠].
أين أنت أيها المشتغل بالملاهي، الغارق في المعاصي، المنغمس في الآثام، أين أنت من قوله تعالى وهو يعظك: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، سوف تسأل عن مثقال الحبة، فكيف بجبال من المعاصي، وأطنان من الذنوب، وأرتال من الآثام؟
يا الله !الإنسان لو يطلب من البنك كشف حساب لمدة خمس سنوات لمكث أيامًا في مراجعته، ولرأى فيه العجب العجاب من العمليات البنكية التي نسي أكثرها، وهذا فقط لمدة خمس سنوات، وعبارة عن رصد حركات بنكية قد تتم في الأسبوع مرة، وقد يمر الشهر وما تم منها شيء، فكيف تظن بمن عاش ستين سنة، وقد أحصي عليه فيها كل صغيرة وكبيرة؟ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر:53]، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء:13].
النظرات والغدرات، والفجرات والهمسات، والكلمات والخيانات، والسرقات والقنوات، والمكالمات والشاتات، والساحات والبلوتوثات، والفضائح والقبائح، والخزايا والنوايا، والخفايا والفسوق، والعقوق والحقوق، والكبائر والصغائر، كل ذلك سيجده الإنسان أمامه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:٣٠]،
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، فهل اتعظنا بهذا الآيات، وصلحت القلوب، وزكت الضمائر؟ أم أن الغفلة مخيمة، والآمال حاجزة، والمعاصي جاثمة، عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.

أحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حسُنَتْ *** وعنْدَ صفْوِ الليالي يحْدُثُ الكَدَرُ
قدْ سالَمَتْكَ الليالي فاغْتَرَرْتَ بِها *** ولَم تَخَفْ سوءَ مَا يأتي بهِ القَدَرُ

إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يحسد من لا فقه له، من صح فيها سقم، ومن سلم فيها برم، ومن افتقر حزن، ومن استغنى فتن، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من سعى لها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن تبصر بها بصرته، لا خيرها يدوم، ولا سرورها يبقى، وليس فيها لمخلوق بقاء.

هِيَ الدارُ دارُ الأذَى والقَذَى *** وَدَارُ الغُرورِ وَدَارُ الغِيَرْ
فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافيرِها *** لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الوَطَرْ

وقد شبهها بعض أشياء: كالماء المالح يضر ولا يروي، وكلما شربت منه ازددت عطشًا، وكالبرق الخُلَّب الذي لا غيث فيه، يغر ولا ينفع، وكسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وكظل الغمام يغر ويخذل، وكزهر الربيع يزين وينضر، ثم يصفرّ فتراه هشيمًا، وكأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وكالعسل المخلوط بالسم يضر ويقتل.
زَخرف هارون الرشيد رحمه الله قصرًا له، وزيَّنَه، وجمل مجالسه، وصنع طعامًا كثيرًا، ودعا الناس لزيارته، وكان من ضمن المدعوين أبو العتاهية، فقال له هارون: صف لناما نحن فيه من النعيم. فقال:

عِشْ ما بَدَا لَكَ آمِنَاً *** في ظِلِّ شاهِقَةِ القُصُورِ
يُسْعَى إِليْكَ بمَا اشْتهيْـــ *** ــتَ لَدَى الرواحِ وفي البكُورِ
فإِذا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ *** في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُور
فهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنَاً *** مَا كُنْتَ إِلَّا في غُرورِ

فبكى هارون، فغضب الناس وقالوا: بعث إليك أمير المؤمنين تسره وتفرحه، فأحزنته! فقال لهم هارون: دعوه، فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمى.
ومما يروى من الإسرائيليات أن عيسى بن مريم -عليهما السلام- كان في بعض سياحاته، فمر بجمجمة نخرة، فأمرها أن تتكلم فقالت: يا روح الله! أنا ملك من ملوك اليمن، عشت ألف سنة، وولد لي ألف ولد، وقتلت ألف جبار، وتزوجت ألف امرأة، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا، فما كانت إلا كحلم النائم، فبكى عيسى -عليه السلام-.
وروي أن نوحًا -عليه السلام- الذي عاش أكثر من ألف سنة، قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: كدار دخلت من بابها هذا وخرجت من ذاك، ووصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها كراكب نام تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها.
لقد تجمدت المشاعر، وقست القلوب، وجفَّت الأعين، وتبلدت الأحاسيس، إلا من رحم ربك؛ لقد أصبح كثير من الناس في غرة الانخداع بالدنيا وبهرجها، وزينتها، ومتعها، ومناصبها، غافلين عن الآخرة، منصرفين عن الباقية، لا تجدي فيهم موعظة، ولا تحركهم نصيحة، ولا تهزهم ذكرى.
أين آدم أبو الأولين والآخرين؟ أين نوح شيخ المرسلين؟ أين إدريس رفيع رب العالمين؟ أين إبراهيم خليل الرحمن؟ أين موسى الكليم؟ أين عيسى إمام السائحين؟ أين محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟ أين أصحابه الغر الميامين؟ أين الأمم الماضية؟ أين الملوك السالفة؟ أين القرون الخالية؟ أين الذين نُصبت على رؤوسهم التيجان؟ أين من عمّر القصور؟ أين من تمتع باللذات، وانغمس في الشهوات، ونال المتع، وتزوج النساء، ولبس الفارِه؟.
أين الذين ملؤوا الأرض عزًا؟ أين الذين فرشوا القصور خزًا؟ أين الذين هزوا الأرض هزًا؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ أين آباؤك؟ أين أجدادك؟ أين أصدقاؤك؟ أفناهم الله، أفناهم ملك الملوك، أفناهم الواحد الأحد، أفناهم مفني الأمم، أخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور، ومن الظل الممدود إلى ظلمة اللحود، فعاث في أجسامهم الدود، وسالت العيون على الخدود، وتساقطت الأعضاء، وتمزقت الجلود، أصبحوا تحت الأجداث، وتقاسم الأهل الميراث، أيام معدودة، ثم لا يذكرهم أحد، وكأنهم لم يكونوا بالبلد، ولم ينعموا بالمال والولد، فلم ينفعهم ما جمعوا، ولم يغن عنهم ما كسبوا، إلا الأعمال الصالحة.
فيا بشرى لمن حسن عمله، وزكا قلبه، واستنارت بصيرته، وحفظ ربه، وصان نفسه، وتاب إلى ربه، فأولئك يتوب الله عليهم وهو التواب الرحيم.

من أسرار الاختيار


الإنسان لو ترك لشأنه، ووكل إلىٰ نفسه، ولم يؤمر بأوامر معينة، أو يُدل علىٰ فضائل مبينة، أو يدعىٰ إلىٰ أعمال محددة، لغفل قلبه، وضعفت نفسه، وتاه فكره، ومضىٰ وقته، وانقضىٰ عمره غرورا وهباءً، وغفلة وضياعا.
وذلك يشمل الإنسان، أي إنسان، حتىٰ المؤمن بربه، المقر بتوحيده، المعترف بربوبيته، فلو لم ترسم له معالم، وترفع له رايات، وتزف له آيات، لبقي تائها في عبادته، متحيرا في مسيرته، مبعثرا في أفكاره.
والقلوب تغفل وتلهو، والأنفس تكل وتمل، والإنسان بطبعه يستثقل التكاليف، إلا من استعان بالله فأعانه، وتوكل عليه فهداه، واستنصر به فنصره.
وإن المتأمل في هذا الدين القويم، والنهج العظيم، يجده غاية في الإبداع، وآية في الكمال، ونهاية في الجمال والجلال؛ فإذا آمن الإنسان بربه، وصدق بكتابه، ورضي برسوله، فإنه يتابعه بالحفظ، ويكلؤه بالعناية، ويحوطه بالرعاية، ويمده بأسباب الهداية، ينثر كنانة الخير أمامه، ويُجري أنهر البر عن يمينه وشماله، ويرسل غيث التزود للتقوىٰ أمَنَةً منه، هنيئا مريئا، وسائغا فراتا، وسقيا رحمة لا سقيا عذاب.
فإذا كادت ثمار الإيمان في القلب أن تذبل، نزل عليها غيث الوحي، فاهتزَّتْ وَرَبَتْ وأَنْبَتَتْ من كل زوج بهيج، فإذا بالمؤمن في تزود دائم، وعطاء متصل، وتذكير مستمر، يربط قلبه بالدين، وتشد نفسه للهدىٰ، ويعمر وقته بالطاعة.
وإذا أردت أن تتضح لك الصورة، ويتبين لك المراد، وتفهم المقصود فتأمل معي: القرآن موجود بين أيدينا، والسُّنَّة ماثلة أمامنا، ودلائل التوحيد ناطقة بلسان الحال والمقال، والمؤمن مقر ومعترف بالله تعالىٰ، وبالكتاب، وبالنبي، وبالجنة، وبالنار؛ لكن، لو لم يُلزَمْ بِتكاليفَ مُعَيَّنَةٍ، ويُرْبَطْ بِشعائرَ مُحَدَّدَةٍ، ويُحَثُّ علىٰ أعمالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لضاعت أعمارُ كثيرٍ من الناس، وانقضت أوقات الأغلبية من البشر، دون عمل يُذكر، أو اجتهاد يحمد، أو طاعة تعرف.
فأُلزم الإنسان مع إيمانه بالله، وتصديقه بكتابه، ورضاه برسوله، ألزم بخمس صلوات في اليوم والليلة، يمْثُل فيها أمام ربه، ويبرهن فيها علىٰ صدق توحيده، وحقيقة إيمانه، وصفاء إسلامه، وأمر فيها بآيات مخصوصة، وأذكار معلومة، وحركات مرسومة حينما تتأملها تجدها اختيرت بعناية، وحددت لغاية، فاختيار سورة الفاتحة لهدف، والأمر بالتكبير والتسبيح والتعظيم لهدف، وهيئة الركوع والسجود لهدف، وصلاة الجمعة والجماعة لهدف، وصلاة العيدين والكسوف والخسوف لهدف.
وألزم الإنسان بصوم رمضان لتحقيق منافع جمة، وفوائد بديعة في الدنيا والآخرة، ولو ترك الناس ليصوموا من السنة ما شاؤوا لمرت سنوات عديدة وكثير من الناس لم يحدث نفسه بالصوم، ولم يجد وقتـاً لمجرد التكفير فيه، ولو أمروا بصيام شهر من السنة دون تحديد، لتباينوا واختلفوا، وتفرقوا وانقسموا، وحدث الصراع بين المرء وزوجه، والأب وابنه، والخادم وسيده؛ كل له رأي، وكل له نظر، وما قيل عن الصيام يقال عن الحج.
وألزم الناس بالزكاة في مال معلوم، ووقت معلوم، وقدر معلوم، ولو ترك الأمر لاختيارهم، ووكل علىٰ حسب أنظارهم، لمات أناس وهم لم يجدوا الفرصة بعد لزكاة الأمـوال، وذهبت أعمار وهي في غمرة جمع الأموال لم تبذل شيئا لرضا العزيز المتعال؛ يموت الفقير، ويهرم المسكين، ويهلك الجائع، وصاحب المال لم يجد الفرصة بعد للبذل من ماله، فإذا تدخل الشرع، وحدد الأمر، وعين الوقت، وبين القدر، فذلك أفضل مُعين للمؤمن، وخير مُساعد للمسلم.
والقرآن الكريم لو ترك الناس وشأنهم معه لربما انقضت أعمار بعضهم ولم يقرأ سورة، أو يتلو آية، فلذلك أمر بقراءته في الصلاة، ودعا إلىٰ سور معلومة، وآيات مخصوصة، تعوض تقصيره، وتكفل تذكيره.
وحينما تتأمل هذه القضية، وهي حَثُّ المسلمِ علىٰ قراءة سور محددة، وآيات مخصوصة، وأوراد معلومة، تجد أمرا عجبا, فالقرآن كله كلام الله، والسنة كلها وحي من الله، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:٣-٤]، فلماذا تختار هذه الآيات، وتفرض تلك الكلمات؟.
وحينما تتأمل في تلك السور التي أُمِرنا بقراءتها، ودعينا إلىٰ الترنم بها، نجدها في الغالب قد حوت موجز الدين، وملخَّص الرسالة، وحقيقة المنهج.
فسورة الفاتحة -مثلا-، هي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم، فيها الثناء علىٰ الله وتمجيده، وفيها التوحيد، وفيها التذكير باليوم الآخر، وفيها حثُّ الناس علىٰ اللجوء إلىٰ الله تعالىٰ، والتضرع إليه، وفيها الحث علىٰ إخلاص العبادة لله تعالىٰ، وفيها سؤال الله الهداية للطريق المستقيم والثبات عليه، وفيها الترغيب في الأعمال الصالحة، والتحذير من مسالك أهل الباطل والضلال، فهي موعظة ربانية عظيمة القدر، عميقة الأثر، بديعة النظم، جامعـة مانعـة، تترد علىٰ الأسماع، وتتلىٰ علىٰ القلوب والأفئدة في أثر متجدد، وقبول مستمر، ونغم مستحسن.
وسورة البقرة، سورة عظيمة المنزلة، كبيرة المنفعة، والشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولكن، من فاتته قراءة سورة البقرة، فقد اختير له منها مقطعان عظيمان فيهما الخير الكبير، والمنفعة العظمىٰ، والبركة القصوىٰ، الأول هو آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله تعالىٰ، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- .
وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- علىٰ قراءتها واتخاذها وردا من الأوراد، والمسلم لا يزال عليه من الله حفيظ، ولا يقربه شيطان حتىٰ يصبح، إذا قرأها حين يأوي إلىٰ فراشه؛ فهي آية بديعة شاهدة بالعظمة، معلنة بالتوحيد، ناطقة بالكمال والجلال والجمال، قال تعالىٰ: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:٢٥٥].
والمقطع الآخر من سورة البقرة -وهو من الأوراد المأمور بها- هو الآيتان الأخيرتان منها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" أخرجه البخاري. قيل: معناه كفتاه المكروه تلك الليلة، وقيل: كفتاه من قيام الليل.
وهُما قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:285-286].
وإذا تأملت آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، عرفت الحكمة من اختيارهما، وعرفت أسباب الروعة، ومواطن الجمال، ودلائل العظمة.
ومن لم تتح له الفرصة لقراءة قدر كبير من القرآن؛ فإن بإمكانه أن يعوض ذلك التقصير الذي يطرأ بقراءة سورة من أربع آيات، ولكنها تعدل ثلث القرآن. قال -صلى الله عليه وسلم-: "(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1] والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" البخاري. وقال رجل: يا رسول الله، إني أحب هذه السورة: قل هو الله أحد، قال: "إن حُبَّها أدخلك الجنة" أخرجه الترمذي وصححه. فالمسلم يترنم بهذه السورة آناء الليل وأطراف النهار لما فيها من الأجر، ولما لها من القدر.
ومما حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من السور التي يجعلها المسلم وردا يفتتح به يومه ويختمه: سورة الإخلاص، والمعوذتان، قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن خبيب: "قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء" أخرجه الترمذي وصححه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، وقرأ فيها: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس؛ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. أخرجه البخاري.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتىٰ غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك" أخرجه الترمذي وحسِّنَه. فكم فيها من التذكير، وكم فيها من الوعد والوعيد!.
إن هذا الاختيار لهذه السور المخصوصة، والآيات المعلومة، له فوائد جمة، ومنافع عظيمة: فهي تعوض تقصير الإنسان مع القرآن، وهي تحفظ المرء من المكر والكيد والشيطان، وهي تربط المرء بالواحد الديان. والمتأمل في كل ما يختار من سور، ويُحَدَّد من آيات، يجد أن اختيارها حكيم، ومدارها عظيم.
وهي جميعا في الغالب تدور حول إثبات عظمة الله تعالىٰ وتوحيده، واللجوء إليه، والإقرار بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والتذكير بالجنة والنار، ويوم العرض علىٰ العزيز الجبار، حتىٰ يبقىٰ المرء علىٰ بصيرة من أمره، وذكر من ربه، وصلة بمعبوده.
وهذا الباب الحديث فيه واسع، والمجال لا يسمح بالتفصيل والتطويل، والشرح والتعليل، وإلا فهو باب كريم، ونبأ عظيم، فيه إيجاز وإعجاز، وحكم وأحكام، وروعة وإحكام، وإمتاع وإبداع، وسلوة وإقناع.
فتأمل مثلا الحث علىٰ قراءة سورة السجدة، وهل أتىٰ علىٰ الإنسان حين من الدهر في صلاة الفجر يوم الجمعة، وكم في ذلك من الحكم، وكم له من الأثر، فقد اختيرت هاتان السورتان لما اشتملتا عليه من التعظيم والتقديس لله تعالىٰ، وما اشتملتا عليه من آيات الوعد والوعيد، وعْد تطرب له النفوس، وتنجذب إليه القلوب، وتشتاقه الأرواح، ووعيد يهز الوجدان، وترتعد له الفرائص، وتذهل له الأفئدة.
 وانظر إلىٰ اختيار سورتي سبح والغاشية في صلاة الجمعة، أو سورة الجمعة والمنافقون.
وانظر إلىٰ اختيار سورة الكهف، والحث علىٰ قراءتها في يوم الجمعة فتكون زاداً أسبوعياً للمؤمن في كل جمعة، يجد فيها ما لذ وطاب مما يغذي الروح، ويروي ظمأ النفس، ويبرد حرارة الفؤاد.
ويجد فيها الذكرىٰ الواعظة، والعبر الخالدة، بما فيها من القصص، وما تحمل من الأحداث، ففيها قصة أصحاب الكهف، وقصة الجنتين، وإشارة إلىٰ قصة آدم وإبليس، وقصة موسىٰ مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين؛ وفيها التركيز والتأكيد علىٰ توحيد الله تعالىٰ، فهو في بدايتها، وهو مسك ختامها: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
وفيها آيات الوعد الماتعة، وكلمات الأمل الرائعة، يقرأها المؤمن متطيبا متسوكا، لابسا أحسن ملابسه في هذا اليوم، ثم يتذكر بها الجنة ونعيمها، والفردوس ولباسها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:30-31].
وفيها من آيات الوعيد ما يخلع القلوب، ويصدع النفوس، فيتذكر المؤمن وهو في هذا الجمع الهادئ الآمن، ذلك الجمع الرهيب، واللقاء المهيب: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:47-49].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" أخرجه مسلم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" أخرجه الحاكم وصححه الألباني.
فهل تدبرنا هذه السور وهذه الآيات؟ وهل عقلناها وعقلنا الحكمة من قراءتها، والفائدة من تردادها؟ أم أن القلوب غافلة، والأنفس لاهية، والشهوات جاثمة! أين نحن من نداء سورة الكهف في كل جمعة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:٢٨]؟
وأين نحن من قوله تعالىٰ فيها:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46]؟.