الخميس، 10 يناير 2013

السنة

قال -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" صحيح الجامع.
فكتاب الله تعالى هو الأصل الأول في التشريع، وحديثنا عن الأصل الثاني، والجزء الباقي، والقسم الآخر من أقسام الوحي، وهو السنة المطهرة، والطريقة المعصومة، والمنهج الأحمدي، والهدي النبوي؛ فهو أخو القرآن وشقيقه، وحميمه ورفيقه، فالمصدر مصدره والطريق طريق (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4].
يقول حسان بن عطية -رضي الله عنه- كان جبريل ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن؛ فالسنة النبوية وحي من العظيم، ونور من الكريم، وفيض من الحكيم، تلي الكتاب في الفصاحة، وتأتي بعده في البلاغة.
نطق بها أفصح الناس لسانا، وأعذبهم بيانا، وأحسنهم خطابا، وأسدّهم لفظا، وأبينهم عبارة، وأصدقهم إشارة؛ ألفاظه أرق من النسيم، وأعذب من الشهد؛ ومعانيه إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل.
القرآن هو المعجزة القاهرة، والآية الباهرة، والحجة الباقية، وقد تكفل الله بحفظه من التبديل والتحريف، والتغيير والتصحيف إلى قيام الساعة؛ والقرآن هو كلام الله -جل وعلا- الذي نزل به الروح الأمين على النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظه ومعناه, (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء:192-194].
ومن خصائص القرآن أنه متعبد بتلاوته في الصلاة وخارجها، وأنه لا تجوز روايته بالمعنى، وأنه معجز بلفظه ومعناه؛ أما السنة فهي منزلة بالمعنى، ولفظها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن هنا جاز روايتها بالمعنى، وهي ليست معجزة بألفاظها، ولا متعبدا بتلاوتها، وهي كذلك لم تنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طريق جبريل فقط، بل نزلت عن طريقه وعن طرق الوحي الأخرى، من إلهام أو من وراء حجاب، أو بإرسال ملَك في اليقظة أو المنام، وقد يأتي على صورته الحقيقية، وقد يأتي متمثلا في صورة بشر، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى:51].
السنة نور يتلألأ، وبدر يضيء، وسراج يزهر، وعبق يفوح، وعلم يتفجر، وكنوز تنثر، وصفحات تنشر؛ السنة مرآة النبوة، وروعة الرسالة، وجمال المنهج، وصفاء المبدأ.
السنة في معناها اللغوي تعني: الطريقة؛ سواء كانت حسنة أو قبيحة. وهي في الاصطلاح: ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، وهي مع الكتاب في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بها على الأحكام الشرعية؛ صحيح أن القرآن أفضل منها منزلا، وأجل منها قدرا، وأبعد منها مكانا، ولكنهما في مرتبة واحدة من حيث الحجية، فهي وحي مثله، لا يجوز تركها، ولا يسوغ إهمالها، ولا يصح مخالفتها.
مَن عصاها فقد عصى القرآن، ومن هجرها فقد خالف البرهان، ومن تنكر لها فقد أسخط الديان (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31]، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الحشر:7]، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً) [النساء:65].
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما جدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله" صحيح الجامع، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ؛ وإياكم ومحدثاتِ الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" صحيح الجامع.
فالسنة متممة للكتاب، وشارحة له، ومبينة لمبهمه، ومفصلة لمجمله، ومؤكدة لأحكامه، ومقيدة لمطلقه، وموضحة لمشكله، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164].
فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: السنة تفسر الكتاب، وتعرِّف الكتاب، وتبينه. ويقول ابن عبد البر -رحمه الله-: والبيان منه -صلى الله عليه وسلم- على ضربين: الأول: بيان المجمل في الكتاب العزيز، كالصلوات الخمس في مواقيتها، وسجودها، وركوعها، وسائر أحكامها؛ وكبيانه -صلى الله عليه وسلم- للزكاة وحدها ووقتها، وما الذي تؤخذ منه الأموال، وبيان مناسك الحج. والثاني: زيادة على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وكتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، إلى أشياء يطول ذكرها.
وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم عن مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة للقرآن أنه مبين له، وموضح لمراميه وآياته، حيث يقول تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44].
ولقد اعتنى الصحابة -رضي الله عنهم- بالسنة النبوية عناية فائقة، فتلقوها بالقبول، وامتثلوها بالتطبيق، والتزموا الحدود، وامتثلوا الأمر، واجتنبوا النهي، واقتدوا به -صلى الله عليه وسلم- في كل أعماله وعباداته ومعاملاته، سواء في حياته أو بعد مماته، أخذوا عنه أحكام الصلاة، وأركانها، وهيْأتها، وصفتها، عملا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري. وأخذوا عنه مناسك الحج وشعائره؛ امتثالا لأمره: "خذوا عني مناسككم" رواه النسائي.
بل بلغ من اقتدائهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل، ويتركون ما يترك دون أن يعلموا لذلك سببا، أو يسألوه عن علته وحكمه؛ اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتما من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني اتخذت خاتما من ذهب"، وقال: "إني لن ألبسه أبدا"، فنبذ الناس خواتيمهم. رواه البخاري.
وبينما هو يصلي بأصحابه ذات مرة إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى الصلاة قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟"، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل ا أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا" صححه الألباني.
انظر إلى هذه المتابعة الصادقة، ثم انظر إلى أحوال كثير من الناس اليوم، تأتيهم بالحديث، وتخبرهم بالسنة، فيقطبون جباههم، ويلوون أعناقهم، وتضيق صدورهم، وتأبى قلوبهم!.
ومن أعجب ما روي عن الصحابة في حرصهم على طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتثال أمره، ما حدث من عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، ‏ فعن جابر قال: ولما استوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة قال: "اجلسوا" فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تعال يا عبد الله بن مسعود" رواه أبو داود، فانظر كيف بادر إلى امتثال الأمر وهو لم يدخل المسجد؟.
وهكذا حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على اتِّباع أوامره -صلى الله عليه وسلم-، واجتناب نواهيه، والأخذ بسنته، والسير على مَحَجَّته؛ وقد حفظوا العهد، وصانوا الميثاق، ومضوا على النهج بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وبلَّغوا سنته، ونشروا هدايته؛ امتثالا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها، ثم ذهب بها إلى مَن لم يسمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" صحيح الترغيب. وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ألا هل بلغت" قالوا: نعم قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه البخاري.
وكانوا غاية في الصدق، وآية في الأمانة، مبرئين من الكذب، منزهين عن العبث، فهم الذين حفظوا عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" صحيح الجامع، وبقيت السنة سليمة من الأذى، محفوظة من العدا، بعيدة عن الردى، لا يتجرأ حاسد للنيل من قدسيتها، ولا يطمع منافق في تشويه جمالها، أو العبث بكرامتها.
وكيف يطمع أحد في ذلك وأبو بكر في الوجود، وعمر على قيد الحياة؟ فلما أن قتل الفاروق، وكسر باب الفتن، وثلم حد الإسلام، ودبت الفرقة، ونشأت الصراعات، وتطاولت الفتن، وتسللت المحن التي بلغت ذروتها، ووصلت غايتها بمقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بدأ الغش والدغل، والخيانة والحقد، والحسد والغل.
وكما أوذي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وحورب في دعوته، وعودي في رسالته، وتألب عليه الخصوم، وتكالب عليه الأعداء، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، كما حدث ذلك في حياته -صلى الله عليه وسلم- حدث لسنته بعد وفاته، فامتدت الأيدي الآثمة، واشرأبت الأعناق الماكرة، ونفثت الأنفس الخبيثة، ونطقت الألسن الكاذبة؛ أملا منها في هدم الدين، وطمعا في تشويه السنة، ورغبة في تزييف الحق، وطمس الهدى، وإطفاء النور.
تضافرت جهود الخصوم، وتواطأت قلوب الفجرة من المنافقين والملحدين والزنادقة والفرق الضالة والداخلين في الإسلام على دغل ومكيدة، وممن اتبعهم على جهالة وعمى بصيرة، فسددوا سهامهم إلى السنة، وأعملوا فيها سيوف باطلهم، وخناجر بهتانهم، ورماح أكاذيبهم، فكذبوا واخترعوا، وزادوا ونقصوا، ووضعوا ودسوا، ومكروا وغدروا، وعبثوا وفجروا.
لكن، ولله الحمد والمنة، (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً) [الأحزاب:25]، فارتدت سهامهم في نحورهم، وعادت خناجرهم إلى صدورهم، وصوبت رماحهم إلى قلوبهم، لم ينالوا منالا، ولم يجنوا خيرا، بل تميز الخبيث من الطيب، والصالح من الطالح، وازداد الحق ثباتا، والصدق رسوخا، والنور ضياء، والبرهان وضوحا، فكان الخير كل الخير في ثنايا الشر، وكان الهدى أحسن الهدى في زوايا الأذى.

وإِذا أرادَ اللهُ نشْرَ فَضِيلَةٍ *** طُوِيَتْ أتاح لَها لسانَ حَسُودِ
لولا اشْتِعالُ النَّارِ فيمَا جاورَتْ *** ما كانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ

كانت تلك المكايد، وهاتيك الدسائس سببا في إيقاد نار الغيرة في قلوب المؤمنين، وتحريك الهمة في نفوس الموحدين، وبعث الحمية في صدور المتقين؛ فبذلوا أوقاتهم، وأتعبوا أجسادهم، وكَدُّوا أذهانهم، أسهروا ليلهم، وأظمئوا نهارهم، وشحذوا هممهم في دفاع صادق، ونضال مخلص، وجهاد مفلح، وأتوا بعلم لم يعرف في الأولين ولا في الآخرين، ولم يكن له مثيل في العالمين وهو علم مصطلح الحديث، فقعَّدوا القواعد العلمية التي لا نظير لها في أمم الأرض، فصانوا بها السنة، وحفظوا بها الملة، وحرسوا بها الشريعة.
وأهم الخطوات التي قاموا بها لحفظ السنة:
أولا: دراسة إسناد الأحاديث، فلا يقبلون منها إلا ما عرفوا طريقها ورواتها، واطمأنوا إلى ثقتهم وعدالتهم.
يقول ابن سيرين فيما يرويه عنه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمـــُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. ويقول ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
ثانيا: التوثق من الأحاديث، وذلك بالرجوع إلى الصحابة والتابعين وأئمة هذا الفن، وكان الصحابة أنفسهم يرحل الواحد منهم شهرا كاملا من أجل حديث واحد كما فعل جابر بن عبد الله حينما رحل إلى الشام، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى مصر من أجل حديث واحد، فلما سمعه عاد إلى المدينة من فوره ولم يحل رحله.
ويقول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام. وخرج الشعبي -رحمه الله- من الكوفة إلى مكة المكرمة في طلب ثلاثة أحاديث.
وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والموصل، والمغرب، والجزائر، ومكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، والعراقين جميعا، وفارس، وخراسان، والجبال، والأطراف، ثم عدت إلى بغداد.
وإذا أردت أن تعرف من ذلك المزيد، وتقع على العجب العجاب من أخبار السلف -رحمهم الله-، فاسمع إلى أحدهم وهو الإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي المتوفى عام 227هـ يقول: وأما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا يحصى، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين قرب مدينة سلا، وذلك في المغرب الأقصى إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرطوس، ثم رجعت من طرطوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيا.
ثالثا: أما الأمر الثالث من الأمور التي اتخذها السلف لحفظ السنة وتنقيتها فهو نقد الرواة، وبيان حالهم من صدق أو كذب، وهذا باب عظيم، وصل منه العلماء إلى تمييز الصحيح من المكذوب، والقوي من الضعيف، وقد أبلوا فيه بلاء حسنا، وتتبعوا الرواة، ودرسوا حياتهم وتاريخهم وسيرتهم، وما خفي من أمرهم وما ظهر، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولا منعهم من تجريح الرواة والتشهير بهم ورع ولا حرج.
قيل ليحيى القطان العالم الحافظ الجهبذ: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لم لم تذبّ الكذب عن حديثي؟.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: المقبول الثقة الضابط لما يرويه، وهو المسلم العاقل البالغ، سالما من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، وأن يكون مع ذلك متيقظا غير مغفل، حافظا، إن حدَّث فمن حفظه، فاهما إن حدث عن المعنى، فإن اختل شرط مما ذكرنا ردت روايته.
بهذه الطريقة العظيمة، والقوانين البديعة، والقواعد الدقيقة، حفظ السلف سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وصانوا أحاديثه، وقد بلغت علوم الحديث والقواعد التي وضعها العلماء لحفظه ما يربو على الستين علما، فبقيت السنة عالية الذرا، ناصعة الجبين، واضحة المحجة، ظاهرة الحجة، داعية إلى الحق والهدى، نابذة للضلالة والعمى.
وقد قيض الله علماء أطهارا، ونجباء أبرارا، محقوا الدسائس، وأتوا بالنفائس، أرهقوا الأجساد والأرواح، فجاءوا لنا بمختار الصحاح؛ يقول الإمام مالك -رحمه الله-: كتبت بيدي مائة ألف حديث؛ وأوسع المسانيد التي ضمت الأحاديث في القرن الثالث الهجري مسند الإمام أحمد، ومسند بقي بن مخلد، وقد ضم مسند الإمام أحمد أربعين ألف حديث، وقد قال عن مسنده: هذا كتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا. ويقال: إن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف حديث. ويضم مسند بقي بن مخلد حوالي ثلاثين ألف وتسعمائة وسبعين حديثا.
وهذا الإمام البخاري -رحمه الله- صاحب أعظم وأصدق كتاب بعد كتاب الله تعالى، أودع في كتابه ما يربو على سبعة آلاف حديث بالمكرر، يقول عن كتابه: أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت في كتابي حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. ويقول: كتبت عن ألف شيخ، ورويت عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، وما عندي حديث إلا أذكر إسناده.
ونقل عن الإمام مسلم أنه صنف صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث، وهو يضم اثني عشر ألف حديث. وقال الإمام أحمد عن أبي زرعة- رحمه الله-: هذا الفتى قد حفظ ستمائة ألف حديث. وهذا الإمام أبو داود -رحمه الله- الذي تحوي سننه حوالي خمسة آلاف ومائتين وأربعة وسبعين حديثا، يقول: جمعت كتاب السنن من ستمائة ألف حديث. وهذا يحيى بن معين -رحمه الله- يقول: كتبت بيدي ألف ألف حديث، وهو الذي يقول: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه.
وهذا علي بن عاصم مسند العراق، أعطاه أبوه وهو شاب صغير مائة ألف درهم وقال له: اذهب ولا أرى لك وجها إلا بمائة ألف حديث، فذهب وعاد إلى والده بمائة ألف حديث يحفظها عن ظهر قلب! فانظر كيف كانوا يربون أبناءهم؟ وبماذا يعمرون أوقاتهم؟ وهذا شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك حمل العلم عن أربعة آلاف شيخ. إلى غير ذلك من الهمم العالية، والعزائم المتوقدة، والجهود الجبارة التي بذلت لحفظ السنة، وصيانة الملة، ورعاية المنهج.
فأولئك أركان الشريعة، وأمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته؛ أنوارهم زاهره، وفضائلهم سائره، وآياتهم باهره، ومذاهبهم ظاهره، وحججهم قاهره؛ لم يعرجوا على الأهواء، ولم يلتفتوا إلى الآراء، فجزاهم الله أفضل وأكمل وأعظم الجزاء.
وبعد الصراعات الدامية، والمعارك الضارية، التي أرادت أن تستأصل شأفة السنة، وتطمس أنوارها، وتشوه أخبارها، وتهتك أستارها، كتب الله النصر للسنة وأربابها، والحنيفية وحراسها، فخرجت منتصرة مظفرة، محفوظة مطهرة، مضبوطة مقررة، مكتوبة مدونة، مهابة مكرمة، بيضاء نقية، ناصعة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتيه عنها إلا مخذول، من أخذ بها نجا، ومن تركها خسر.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". رواه البخاري؛ فيا خسارة من ترك محجته، وخالف سنته، وهجر طريقته، وتنكب ملته!.
ولا صلاح لهذه الأمة إلا بالعودة الصادقة إلى الكتاب والسنة قراءة وتدبرا وتطبيقا وعملا؛ وأي أرض لم تشرق عليها أنوار الرسالة، وشمس الهداية، فهي أرض ملعونة؛ وأي قلب لم يستنر بضياء الكتاب والسنة، فهو قلب مظلم. وإن ما تعيشه هذه البلاد من نعم، وما ترفل فيه من فضل، وتحظى به من أمن، لهو ثمرة تحكيم الكتاب، والعمل بالسنة، والتطبيق للشريعة.
نسأل الله تعالى أن يزيدها هدى وصلاحا، ونورا وفلاحا، وتوفيقا ونجاحا، وأن يوفق ولاة أمورها ويرزقهم البطانة الصالحة، والصحبة الناصحة، وينفع بهم البلاد والعباد، إنه سميع مجيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق