الخميس، 10 يناير 2013

الحسد


حديثنا اليوم عن داء عضال، ومرض خبيث، وخلة مقيتة، وصفة ذميمة، وسمة لئيمة، وذنب أكبر، وخلق دنيء، وظاهرة قاتلة؛ أربابه كثيرون، والناجون منه قليلون، إذا دب في قلب أفسده، وإذا ظهر في قوم أهلكهم، وإذا فشا في أمة مزقها، وإذا شاع في مجتمع أتلَّه؛ يغضب الرب، ويستمطر الغضب، ويورث الحقد، ويزرع الكراهية، ويشعل الضغينة، ويعارض الشريعة، ويصادم الوحي، وينافي الإيمان. إنه الحسد. وما أدراك ما الحسد؟!.
صناعة الشيطان، وبضاعة اليهود، ومهنة الخبثاء؛ التلطُّخُ به كارثة، والابتلاء به مصيبة، والسير فيه دناءة؛ يجمع مساوئ الأخلاق، ويحوي أسوأ الصفات، فهو اعتراض على الخالق، وتسخُّط على القدر، ومرتع للحقد، وصارف عن الشكر، وجالب للغم، وسبب للهم، ومنبع للشرور، ومورث للضغائن، ومورد للذلة، ومبين عن الحمق، وملهب للحسرات، ومحرض على العداوة.
يكفيه شناعة وعيباً أن الله تعالى أمر بالاستعاذة منه، كما أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [سورة الفلق].
إنه أول خطيئة ظهرت في السماوات، وأول معصية في الأرض؛ لقد كان الحسد سبباً لمعصية إبليس، ولعنة الله له، وطرده من الجنة؛ إذ اعترض على أمر ربه، قال تعالى: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:١٢]، وكان الحسد سبباً في أول نفس قُتِلَت على وجه الأرض حينما قتل قابيل هابيل حسداً منه حينما تقبل من هابيل ولم يتقبل منه.
وكان الحسد سبباً لعداوة إخوة يوسف ليوسف، ومحاولتِهم قتله، وإلقائِه في الجب، وتعذيب والده على فراقه سنوات طويلة حتى ابيضت عيناه من الحزن.
وكان الحسد سبباً في إعراض كثير من المشركين عن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ومحاربتهم له، وقتالهم إياه؛ وكان الحسد -ولا يزال سبباً- في كراهة كثير من أهل الكتاب -خصوصاً اليهود- للمسلمين والإسلام، ورفضهم للرسالة المحمدية، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:١٠٩].
إنَّ الحسدَ لِخُبْثِه، وشناعته، وكُرْه الشريعة له؛ يأكل الحسنات، ويتلف المكاسب. إنه عدو الإيمان، ومناقض التقوى، كما في الحديث: "لا يجتمعُ في جَوْفِ عَبْدٍ الإيمانُ والحسدُ" رواه النسائي وحسَّنه الألباني.
إنه الداء الذي أهلك أمم، ودمر مجتمعات، وحطم علائق، ومزق أسر؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء" أخرجه أحمد. إن الحسد داء خطير، وشر مستطير، وقل أن ينجو منه إنسان، كما قيل: ما خلا جسد من حسد.
الحسد هو كره النعمة للآخر وتمنِّي زوالها عنه، إنه داء ينهك الجسد، ويفسد الود، وعلاجه عسِر، وصاحبه ضجِر؛ إنه عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان، سبب لكل قطيعة، ومنتج لكل وحشة، ومفرق لكل جماعة؛ إنه قاطع الرحم بين الأقرباء، ومحدث التفرقة بين القرناء، ومشعل الشر بين الشركاء.
والحاسد في هم دائم، وحزن لازم، مغموم مهموم، مخذول موزور، يهدأ الناس ولا يهدأ، وينامون ولا ينام، يفكر ويقدر، ويخطط ويدبِّر، تزعجه نعمة الله على غيره، ويغيظه فضله لسواه، يغتم لسرور الناس، ويبكي لفرحهم، ويتألم لسعادتهم.
مغتاظ على مَن لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه، لا ينال من المجالس إلا مَذَمَّةً وذُلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلا خزياً وغَمَّاً، ولا ينال عند الموت إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالا، إنه ظالم أشبه بالمظلوم!.

إِنَّ الحَسُودَ الظَّلُومَ في كَرَبٍ *** يخالُهُ مَنْ يراهُ مَظْلوما
ذا نفَسٍ دائمٍ على نَفَسٍ *** يُظْهِرُ مِنْهُ ما كان مَكْتُوما

قال بعضهم: قاتَلَ الله الحسد، ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله! وقال الآخر: الحسد داء مُنْصِفٌ يفعل في الحاسد أكثر من فعله بالمحسود. وقال معاوية -رضي الله عنه-: ليس في خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسدَ قبل أن يصل إلى المحسود. وقال الآخَر: يصل إلى الحاسد خمسُ عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الله عليه، ويغلق عنه باب التوفيق.
إن المؤمن نقي القلب، زكي الروح، مهذب المشاعر، طاهر الوجدان، سليم الصدر، تقي الخواطر؛ سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ فقال: "كل مخموم القلب، صَدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" أخرجه ابن ماجة وصحَّحه المنذري.
وحينما أخبر -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنه يطلع عليهم رجل من أهل الجنة تبين أنه ليس بكثير عمل، ولكنه قال لهم: إنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشا ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه. أخرجه أحمد وصحَّحه المنذري.
وبهذا النقاء والصفاء أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:٩]، أي لا يجدون في صدورهم حسداً أو غيظاً مما أوتي المهاجرون.
إن الحسد مُتْلِفٌ لروح الإيمان، مفسد لأزهار التقوى، مهلك لثمار المثُل؛
إن الحسد من أخطر الذنوب، وأسوأ المعاصي، وأقبح الخطايا؛ والمؤمن الحق يكون أبعد الناس عنه، وأشدهم حرباً عليه، ومجاهدة له.
وللحسد أسباب كثيرة، وبواعث متعددة، وللتوقي من الحسد وأضراره أسباب هامة، وأدوية ناجعة، سوف تكون جميعاً موضوعاً للخطب القادمة بإذن الله تعالى.
ومن أقسام الحسد: العين، وسنفرد لها خطبة كاملة؛ لأنها من أخطر الأدواء، ومن أدهى الشرور، (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32].

هناك 4 تعليقات: