الخميس، 10 يناير 2013

في وداع الحجيج


(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].
المشهدُ مَهُولٌ، والموقف مهيب، والمنظر مذهل، تطيش له الأفهام، وتخشع الأقلام، ويرتعد الجنان، ويتعثر اللسان. أشرفْتُ من مكان عالٍ يُطل على الحُجاج، فرأيت ما تعجز النفس عن تصويره، ويتقهقر القلم عن تدوينه. أرض قد زرعت بالبشر، وجبال احتضنت الناس، وطرق غُصَّت بالمشاة، وفضاء يعج بالتكبير والتهليل، وأفق يعطر بالتسبيح والتحميد؛ دموع تذرف، وعبرات تنثر، ودماء تهراق.
مهرجان عجيب، ونبأ غريب، وملائكة تحف، وخير يرف، ورحمات تتنزل؛ أكباد تحترق، وأفئدة تلتهب، وقلوب تتقد، وحسرات تتصاعد؛ عباد أقبلوا في قلوب وجلة، وأرواح متشوقة، ونفوس بربها متعلقة؛ ومذنبون مفرطون أتوا يعلنون التوبة، ويظهرون الندم، ويأسفون على الزلل، ويعتذرون عن التقصير.
ومترفون منعمون مرفهون، طرحوا ألبسة الزينة، وتنكروا لليالي الترف، فافترشوا الأرض، وتوسدوا أذرعتهم، وأكلوا الميسور من الطعام، فيجدون لذلك لذة ما عرفوها من قبل، وسلوة ما رأوها منذ زمن؛ وفقراء مفلسون قضوا سنوات طويلة يجمعون تكاليف الرحلة، ومصاريف السفر، ليظفروا بالحج، ويفوزوا برؤية البيت، وكأنما حيزت لهم الدنيا بحذافيرها، وضعفاء وعجزة لو طلب من أحدهم أن يمشي خطوات يسيرة في غير هذا الموطن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فيأتي هنا فيمضي في لهف، ويسابق في شوق، يتلذذ بالخطا، ويستأنس للتعب.
يا الله! يا الله! امرأة عجوز تستحث الخطا، وذو شيبة منهك يسابق الزمن، ومشلول يزحف، وكفيف يتلمس، وأطفال يتحفزون، وهزيل يكافح، ومريض يقاوم، وملك يزاحم، وأمير يعاني، ووزير يقاسي! الهم واحد، والهدف واحد، والمقصود واحد، والرجاء واحد، والنداء واحد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

تَاهَ لُبِّي وَذَابَ قَلْبِي لِرَبِّي *** فَهْوَ حُبِّي وَسَلْوَتِي فِي حَيَاتِي
وَلَهُ كُلُّ ذَرَّةٍ فِي كِيَانِي *** وَمَمَاتِي وَمَنْسَكِي وَصَلَاتِي

 تدافعت الحشود، وتزاحمت الوفود، وتسابقت الهمم، وشمرت العزائم، كلهم يرجون رحمة الله، ويلوذون ببابه، وينطرحون على أعتابه، وهو الرحمن الرحيم، البر الكريم، المتفضل العظيم، الكل يناديه، الجميع يرجوه، الرجال والنساء، الكبار والصغار، الأسود والأبيض، والأحمر والأصفر، والعربي والعجمي؛ يهتفون بلغات مختلفة، ولهجات متباينة، وأصوات متعددة، أكثر من أربعمائة لغة! كلهم يتكلمون مع الله، يهتفون بدعائهم، ويعلنون بذكرهم، ويعرضون حاجاتهم، ويصفون حالاتهم.
وهو -جل وعلا- يعرف لغاتهم، ويميز أصواتهم، لا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه الأصوات، يعلم بما ينطقون، ويدري بما يسرون وما يعلنون، فيجيب نداء هذا، ويسمع بكاء هذا، ويرفع دعاء ذاك، يفرج هم المهموم، ويقضي دين المدين، ويشفي المريض، ويغفر الذنب، ويقبل التوب، ويقيل العثرات، ويمحو السيئات، ويغدق الرزق، ويرسل الفضل، ويبعث الرضا، ويفيض المنى.
ومع كل ذلك ينادي عباده -جل وعلا- قائلا: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقِصُ المِخْيَطُ إذا أدخل البحر" أخرجه مسلم.

يَهْتِفُ العَابِدُونَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ *** وبِلادٍ على اختِلافِ الصِّفاتِ
لَم تَغِبْ عنْهُ هَمْسَةٌ أوْ هُتَافٌ *** لِلْمُنادِينَ مِنْ جَمِيعِ الفِئاتِ
غافِرٌ راحِمٌ حليمٌ تَجَلَّى *** حِلْمُهُ في عَطائِهِ للجُناةِ

 سبحانه! ما أوسع عطاءه! سبحانه! ما أجزل هباته! سبحانه! ما أعظم فضله! مَن تقرَّبَ إليه شبراً تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، ومن أقبل إليه تلقَّاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، يشكر على اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق مؤاخذته، وعفوه سبق عقوبته.
أعلن محبته للتائبين، ومغفرته للمستغفرين، ورضاه عن المتطهرين، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:٢٢٢]، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82]. وينادي عباده المقصرين نداء المتلطف، ويدعو المسرفين دعاء الحاني، فيقول تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
 يسَّر لعباده مواسم جليلة، ومغانم كبيرة، يغفر بها ذنوبهم، ويمحو بها أوزارهم، ويرفع بها درجاتهم؛ ومن أعظمها شأناً، وأبعدها مكاناً، الحج إلى بيته الحرام، حج يعود به المرء كيوم ولدته أمة، فيا بشرى لذوي الحج المبرور، برحمة العزيز الغفور! لقد أظلنا هذا الموسم الأجمل، واللقاء الأعظم، فظفر فيه الموحدون، وفاز المشمرون، وغنم الصابرون، ثم ها هو يرحل في طرفة عين، ويغادر في لمح البصر.

كأنْ لمْ يَكُنْ بَيْنَ الحجُونِ إِلَى الصَّفَا *** أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
وُفُودٌ أَتَوْا مِنْ كُلِّ فَجٍّ فَخَيَّمُوا *** تُحيِّيهمُ الدُّنْيا وتسمو المَشاعِرُ
عَطَاءٌ وسُلْوَانٌ وَجُودٌ وَنِعْمَةٌ *** وَرَبٌّ رَحِيمٌ واسِعُ الفَضْلِ غَافِرُ
فَقَامَتْ بِهِمْ أَزْهَى وَأَزْكَى مَدينَةٍ *** ولكنَّهُمْ في سُرْعَةِ البرْقِ غادَروا

رحل الحج، وغادر الحجيج، ووُدِّع المسافرون، فما أشقَّه من وداع! وما أمضَّه من فراق! وما أصعبه من رحيل! لقد ارتمت الأرواح في أحضان الحج الدافئة، وحَظِيَتْ بعطفه، وأنِسَتْ بقربه، وتعلَّقَتْ بوصله؛ فكيف تطيق الغياب، وتقوى على الوداع؟!.

أَقُولُ لَهُ حِينَ ودَّعْتُهُ *** وَكُلٌّ بِعَبْرَتِهِ مُفْلِسُ
لَئنْ رَجَعَتْ عَنْكَ أَجْسَامُنَا *** لَقَدْ سَافَرَتْ مَعَكَ الأنْفُسُ

 إن في الحج دروساً عظيمة، وعبراً جليلة، ونذراً عديدة؛ ولكننا سنقف مع درس واحد فقط، من أهمها منزلة، وأجلها عبرة، وأعظمها منفعة، أن نتذكر بهذا اللقاء العظيم، والمشهد المهول، لقاءنا بربنا، ووقوفنا بين يديه تعالى، وأن نتذكر بهذا الرحيل رحيلنا عن الدنيا، وسفرنا من الحياة، ولا سيما وقد وافق الفراغ من الحج في هذا اليوم العظيم يوم الجمعة الذي لا تقوم الساعة إلا فيه.
إن التذكير بالموت، والتنبيه للحشر، مقصد أجل من أعظم مقاصد الحج، وذلك بيّنٌ جلي منذ إعلان السفر؛ إذ يتذكر الإنسان مسيره إلى الآخرة، ومنذ ارتداء لباس الحج الذي هو شبيه بالكفن، ومذكر بالموت، ثم في إعلان الضعف والحاجة والافتقار إليه -جل وعلا-، والتجافي عن الشهوات والملذات، ثم في مشاهد الحج ومواقفه وشعائره، وأهم من ذلك كله ما ورد في ثنايا آيات الحج من ربط لهذا النسك العظيم بتقوى الله تعالى، وحسن مراقبته، والاستعداد للقائه، مما يدركه المتأمل، ويفهمه المتدبر.
هذه آيات الحج في سورة البقرة، تبدأ الآية بقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، ثم تختم بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:١٩٦]؛ وفي الآية الثانية يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، ثم تختم الآية بقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197].
وفي الآية الأخرى يقول تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:200-201]؛ وفي ختام آيات الحج يقول تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة:203].
وما أعظمها من لفتة في نهاية الحديث عن الحج!: اتقوا الله في حجكم، اتقوا الله في أعمالكم، اتقوا الله في لقائكم هذا؛ ثم اعلموا يقينا أنكم ستجتمعون بين يديه، وستحشرون إليه تعالى.
وبعد آيات الحج بخمس آيات تأتي آية رهيبة المعنى، هائلة المبنى، تهز الوجدان، وتوقظ المشاعر، وهي قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة:210].
وكذلك الشأن في سورة الحج، فيكفي عبرة وموعظة بداية هذه السورة التي ترهب النفس، وتوقظ الحس، وتزرع الخوف، وتبعث المراقبة: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2]؛ وكذلك في طيات الحديث عن الحج يأتي قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج:34-35].
إن هذا المشهد العظيم لهو أعظم مُذكر للإنسان بيوم الجمع، وموقف التغابن، وهمّ القارعة، وخطر الزلزلة، وذعر الطامة، وهجمة الصاخة، وزحام الحشر، ودنو الشمس، وسيلان العرق، وتطاير الصحف، وحفاء الأقدام، وعري الأجسام، والوقوف بين يدي الملك العلام؛ فلنعُدَّ العدة لذلك، ولنستعد لما هنالك.
إن الموت لم يترك لمتلذذ لذة، ولا لسعيد سعادة، قطع الموت الدنيا، قطع الموت الدنيا، إن أمره غريب، ونبأه عجيب، وخبره مفزع، لا يُحتمَى منه بحصون، ولا يمتنع عنه بقلاع: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:٧٨]، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق