الخميس، 10 يناير 2013

أمين الأمة


إنَّ الحياةَ مع العُظماء باعثةٌ للهمَمِ، داعيةٌ للعجبِ، جالبةٌ للسرورِ، معلنةٌ بالعظمةِ؛ إنَّ هذا الدينَ المتينَ، والنُّوْرَ المبينَ، والنَّصْرَ المكينَ، لَمْ يتألَّقْ في دُنْيا الناسِ، ويشرقْ في أرجاءِ الأرضِ، إلَّا حِيْنَمَا حملَهُ أولئكَ العظماءُ، ونصرَهُ السَّادةُ النُّبلاءُ.
لقَدْ رسمُوا لنا الطريقَ الأَسْمى، والنَّهْجَ الأَرْقَى، والمثلَ الأَوْفَى، لنيل الكرامةِ، وتحقيقِ العزَّةِ، واكتسابِ السيادةِ، والفوزِ بالرِّيادةِ؛ لقَدْ سَطَّروا بدمائِهِم ملاحمَ لا تمحوها الأيامُ، ولا تُبْليها الأعوامُ، ولا تَنْساها الأقوامُ؛ ورسمُوا بحسن أخلاقِهِم، وجميل صفاتِهِم، لوحاتٍ هائمةً بالحسنِ، نابضةً بالرَّوْعَةِ، ناطقةً بالكمالِ، مُحَدِّثَةً عَنْ الجَمَالِ، صَادحةً بالجلالِ.
إنَّ دينَ اللهِ تعالى لَمْ يبلغْ هذا المبلغَ إلا بأُناسٍ قدَّموا رقابَهُم، وأرخصُوا أنفسَهُم، وتناسَوْا حظوظَهُم، وتسابَقُوا إلى رضوانِ ربِّهم، واهتدَوْا بهدي نبيِّهِم -صلى الله عليه وسلم-؛ وإِنَّ في قصصِهِم عبرةً، وفي تاريخِهِم عظةً، وفي أخبارِهِم حياةً.

إنَّا لَمِنْ أُمَّةٍ تزكُو شمائِلُها *** وتزْدَهي في بديعِ الفضْلِ والقِيَمِ
اختارها اللهُ للإِسْلامِ راعيَةً *** تسمُو بآدابِها المثْلى على الأُمَمِ
وكانَ منها أجلُّ الناسِ قاطبةً *** مُحَمَّدٌ خَيرُ خلْقِ الناسِ كلِّهِمِ
سارَ الصَّحابةُ بالنَّهْجِ الكريمِ فما *** تزيَّنَتْ هامةُ الدنيا بمثْلِهِمِ
تعَجَّبَ الدهرُ والتاريخُ في دَهَشٍ *** لروعةِ البذلِ والإخْلاصِ والهِمَمِ
جادُوا بأفضلَ من مالٍ وأبنيةٍ *** سقَوا ثماراً ليَحْيا دينُهُمْ بدَمِ
جادوا بأرواحِهِمْ لله في هِمَمِ *** وأَعْيُنٍ عن دُرُوبِ المجْدِ لم تَنَمِ

هذا أبو عبيدةَ! العظمةُ في أعذبِ أحوالِها، والتضحيةُ في أصدقِ أشكالِها، والأمانةُ في أَرْوَعِ أثوابِها، والأخلاقُ في أحسن آدابِها، والشريعةُ في أزكى أربابِها.
كانَ رجلًا نحيفًا، خفيفَ اللِّحْيةِ، طويلًا، أحْنى، أَثْرَمَ الثَّنِيَّتَيْنِ، جميلَ الوجهِ، حسنَ الخُلقِ، عظيمَ الحِلْمِ، بديعَ التَّواضعِ، أُوتيَ حظًّا وافرًا ونصيبًا طيِّبًا مِنْ كَمَال الطَّلْعَةِ، وروعةِ المُحيَّا، وسلامةِ البهاءِ.
يقولُ عمرُو بنُ العاصِ: ثلاثةٌ من قريشٍ أحسنُ قريشٍ أخلاقًا، وأصبحُها وجوهًا، وأشدُّها حياءً، إِنْ حدَّثُوْا لَمْ يَكْذِبُوا، وإِنْ حدَّثْتَهُم بحقٍّ أو باطلٍ لم يكذِبوكَ: أبو بكرٍ، وعثمانَ، وأبو عبيدةَ.
ويقولُ عنهُ مُعاذُ بنُ جبلٍ: ما أزعمُ أنِّي رأيْتُ مِنْ عبادِ اللهِ عبدًا قطُّ أقلَّ غمزًا، ولا أبرَّ صدرًا، ولا أبعدَ غائلةً، ولا أشدَّ حُبًّا للعاقبةِ، ولا أنصحَ للعامَّةِ مِنْه.
أبو عبيدةَ أحدُ السَّابقينَ الأوَّلينَ، والمؤمنينَ المُبادرينَ، وهُوَ أحدُ العَشَرةِ المُبشَّرينَ بالجنَّةِ، له تاجٌ كبيرٌ، ووسامٌ شهيرٌ، يبقى فخرًا لَهُ على مرِّ الزَّمانِ، وعلامةً لَهُ على مَدى التّاريخِ، إنَّها صفةٌ رائعةٌ، وسِمَةٌ ماتعةٌ، قلَّدَهُ إيّاها المُربّي الأعظمُ، والمعلِّمُ الأكرمُ، صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنَّ لكلِّ أُمِّةٍ أمينًا، وأمينُ هذهِ الأُمَّةِ أبو عبيدةَ بنُ الجَرّاحِ" متفق عليه.
ولذلكَ أشارَ بِهِ أبو بكرٍ -رضي الله عنه- بعدَ وفاةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لكَيْ يختارُوهُ خليفةً، وبادرَ عمرُ -رضي الله عنه- وقال: أَعْطِنِي يدَكَ يا أبا عبيدَة كَيْ أبايعَكَ.

أبا عُبيدَةَ.. والآدابُ ماثلةٌ *** تُهْدِي أفانينَها المُثلَى لمن نَظَرَا
مَنَاقِبٌ تُلهِبُ الإحساسَ رائعةٌ *** أمامَ عينَيَّ تَسْبي اللُّبَّ والفِكَرا
ماذا سنَرْوي من المجدِ العظيمِ لِمَنْ *** بكلِّ وصفٍ جميلٍ كانَ مُشْتَهِرا

حضرَ المشاهدَ كلَّها مَعْ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، بدءًا بمعركةِ بدرٍ في السَّابعَ عشرَ من رمضانَ، في هذا الشَّهْرِ الكريمِ، كانَ لَه فيها موقف عجب، وحدثٌ جلَل، دارَتْ رَحى الحربِ، والتحمَ الفريقانِ، وتنازلَ الجيشانِ، فإذا بوالدِ أبي عبيدةَ يُصَوِّبُ رماحَهُ، ويسدِّدُ رميَهُ إلى ولدِهِ يريدُ قَتْلَهُ، والولدُ يتهرَّبُ مِنْ أَبيهِ، ولكنَّ الأبَ كانَ يُصِرُّ على متابعةِ ابنهِ بالذّاتِ ليقدِّمَهُ قربانًا للآلهةِ، وهديةً للأصنامِ، وضحيَّةً للكفّارِ، ثمَّ ها هُوَ هذا الأبُ الكافرُ يضربُ بسيفِهِ هامَ المؤمنينَ الموحِّدينَ، ويقاتلُ سيِّدَ الأولينَ والآخرينَ، ويناضلُ في حربِهِ على الدِّيْنِ، فلَمْ يكُنْ مِنْ الابنِ إلّا أَنْ زَأَرَ كالأسدِ، وانطلقَ كالرُّمْحِ إلى والدِهِ فأرداهُ قتيلًا.
يا لَهُ مِنْ موقفٍ جليلٍ، وحدثٍ مهيبٍ! نَعَمْ، إِنَّها العقيدةُ، إنَّهُ الدِّينُ، يومَ أَنْ وصلَتْ المسألةُ إلى المفاضلةِ أو التَّضْحيةِ بالوالدِ أو بالدِّينِ، فليذهبْ الوالدُ والأخُ والأهلُ إلى الجحيمِ، فدينُ الله أولى بالنَّصْرِ، وأجدرُ بالأمنِ.
وهنا تأتي الكلماتُ القرآنيَّةُ، والأحرفُ الربّانيّةُ، لِتُشِيْدَ بهذا الموقفِ الجللِ، فينزلُ قولُهُ تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
وتمضي معركةُ بدرٍ بهذا الموقفِ الَّذي تعجَّبَ منه الدَّهْرُ، وبُهِرَ به الزَّمَانُ، وهامَ بِهِ التاريخُ، فتأتي معركةُ أحدٍ ليسجِّلَ فيها أبو عبيدةَ مِيْزةً ثانيةً، وسَبْقًا آخرَ، لَمْ يَفُزْ بِهِ سواهُ، ولَمْ يَنَلْهُ إلّا إيّاهُ؛
دارَتْ الدّائرةُ على المسلمينَ، وقَوِيَتْ شوكةُ المشركينَ، فقتلُوا مِنْ المسلمينَ خَلْقًا كثيرًا، وأحدثُوا الهزيمةَ في صفوفِهِم، ولَمْ يكنْ ذلكَ كلُّهُ مُرْضِيًا لَهُم، بَلْ كانوا يبحثونَ في لَهَفٍ، ويتسابقونَ في هَوَجٍ، لِقَتْلِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي تلكَ اللَّحظاتِ العصيبةِ، والمواقفِ المهيبةِ، الَّتي انكشفَ فيها المسلمونَ عَنْ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وكادَتْ رماحُ الأعداءِ وسهامُهُم أَنْ تنالَ منْهُ، وأصابُوهُ بالحجارةِ، ووقعَ لشِقِّهِ، وأصيبَتْ رباعيتُهُ، وشُجَّ في رأسِهِ، وجُرحَتْ شَفَتُهُ، أقبلَ أبو عبيدةَ يطيرُ طيرانًا إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ انكبَّ عليهِ، وجعلَ ظهرَهُ دونَ نَحْرِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ونظرَ أبو عبيدةَ إلى رسولِ الله فبكَتْ عينُهُ، وخَفَقَ قَلبُهُ، ورجفَتْ جوارحُهُ، حينما رأى الدَّمَ يسيلُ على وجهِهِ وهُوَ يقولُ: "كيفَ يفلحُ قومٌ خضَّبُوا وجهَ نبيِّهِم، وهُوَ يدعُوْهُم إلى الله؟". [ابن ماجه:4027].

وشُجَّ وجهُكَ، ثمَّ الجيْشُ في أُحُدٍ *** يعودُ ما بينَ مقتولٍ ومُنْهَزِمِ
ورَغْمَ تلكَ الرَّزايا والخطوبِ وما *** رأيتَ من لوعةٍ كُبْرَى ومن أَلم
ما كنتَ تحمِلُ إلا قلبَ مُحْتَسِبٍ *** في عَزْمِ مُتَّقِدٍ في وجْهِ مُبْتَسِمِ

وبَقِيَ في وجهِهِ -صلى الله عليه وسلم- في وَجْنَتِهِ حَلْقتانِ مِنْ المِغْفَرِ من ضربةٍ أصابتْه، فأرادَ أبو بكرٍ -رضي الله عنه- وغيرُه مِنْ الصَّحابةِ إِخراجَها، فسألَهُم أبو عبيدةَ باللهِ أَنْ يُخَلُّوا بينَهُ وبينَها، فخافَ أبو عبيدةَ أَنْ يُحَرِّكهَا ويُهَزْهِزَهَا بيدِهِ ليستخرجَها فتؤلمَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فأمسكَ إحدى الحَلقَتينِ بِثَنِيَّتِهِ فانْتَزَعَهَا بقوةٍ، فوقعَ على ظهرِهِ وقد سقطَتْ ثَنِيَّتُهُ معَها، فأرادَ أبو بكرٍ أَنْ يَنْزِعَ الثّانيةَ، فَأقسمَ عليهِ أبو عبيدةَ، فأمسكَها بِثَنِيَّتِهِ فاقتلعَها، وسقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ الأُخْرَىٰ، فأصبحَ أَثْرَمَ أو أَهْتَمَ، فزادَهُ اللهُ بذلكَ الهَتْمِ جَمَالًا، حتّى قيلّ: لّمْ يرَ في النّاسِ أحسنُ هَتْمًا مِنْ أبي عُبيدةَ. [ابن المبارك في الجهاد].
وهكذا مَضى هذا البطلُ الهُمَامِ في بذلِهِ وجهادِهِ، وصبرِهِ وتضحيَتِهِ؛ جاءَ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَفْدٌ فقالوا: يا رسولَ الله! ابعَثْ مَعَنا أمينَكَ ندفَعْ إليه صدقاتِنَا، ويَقْضِي بينَنا في أموالِنا.
فقالَ -صلى الله عليه وسلم- : "اِئْتوني العشيَّة أَبْعَثْ مَعَكُم القويَّ الأمينَ". يقولُ عمرُ: فما أحبَبتُ الإمارةَ إلّا يومئذٍ، فَرُحْتُ مُهَجِّرًا حتَّى صلَّيْتَ خلفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في أوَّلِ الصُّفوفِ، وأنا أرجُو أَنْ يدعُوني لَهُمْ، فلمّا سلَّمَ جعلَ يَرْمِي بطَرْفِهِ يمينًا وشمالًا، وجعلْتُ أتطاولُ لِيَرَانِي فتجاوَزَني، فودِدْتُ أَنَّ الأرضَ انْشَقَّتْ فدخلْتُ فيها، حتّى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجرّاحِ، فقالَ: "تعالَ يا أبا عبيدةَ"، فبعثَهُ مَعَهُم. [تاريخ ابن عساكر25/462].
وقد سُئِلَتْ عائشةُ -رضي اللهُ عنها-: أيُّ أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ أَحبَّ إليهِ، قَالَتْ : أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمرُ، ثمَّ أبو عبيدةَ بنُ الجرّاحِ. ويقولُ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه-: أخلّائي مِنْ أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثةٌ: أبو بكرٍ، وعمرُ، وأبو عبيدةَ.[تاريخ ابن عساكر25/474].
تُوفِّيَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فلَمْ تنقطِعْ مسيرةُ أبي عبيدةَ الجهاديَّةُ، وكتَبَ اللهُ لَهُ أَنْ يحظى بشرفِ قيادةِ جيوشِ الإسلامِ الَّتي فتحَتْ بيتَ المقدسِ، وفتحَتْ الشّامَ كلَّهُ، بل فتحَتْ قرابة ثمانيةٍ وعشرينَ بلدًا.
وكان أبو عبيدةَ في عهد أبي بكرٍ أميرًا على حمصَ، أمّا في خلافةِ عمرَ فقَدْ ولّاه على جيوشِ المسلمينَ بالشّامِ جميعًا، وقَدْ ذكَرْنا لكُمْ سابقًا قصَّتَهُ مَعْ عُمرَ حينَما جاءَ ليتسلَّمَ مفاتيحَ بيتِ المقدسِ، فأوَّلُ ما سألُ عمرُ عَنْ أبي عبيدةَ فجلسا بمَعْزِلٍ عَنْ النّاسِ يبكيانِ.
وفي تلكَ الرِّحْلِةِ لِعمرَ إلى الشّامِ حدَثَ موقفٌ آخرُ لا يقلُّ في عظمتِهِ وروعتِهِ عَنْ الأوَّلِ؛ إذ قاَل عمُر: يا أبا عبيدةَ، اذهَبْ بِنا إلى منزلِكَ. قَالَ: وما تصنعُ عِنْدي؟ ما تريدُ إلّا أَنْ تعصرَ عينيكَ عليَّ. أرادَ عمرُ أن يطَّلِعَ على وضعِ أميرِهِ المحبوبِ، يريدُ أَنْ يعرفَ منزلَهُ، ومستوى معيشتِهِ، فعرفَ أبو عبيدةَ أَنَّ المنظرَ لَنْ يَسُرَّ عمرَ، وأَنَّهُ سينثرُ دموعَهُ إذا رآهُ، ولكنَّ عمرَ أصرَّ على موقفِهِ.
فلمَّا جاءَ إلى البيتِ فإذا بمنزلٍ قديمٍ، وبنيانٍ مهدَّمٍ، فدخلَ فلَمْ يجدْ فيهِ شيئًا إلّا سيفَ أبي عبيدةَ، فقالَ في عجبٍ واستغرابٍ: أينَ متاعُكَ؟ لا أَرى إلا لِبدْا أو صفحةً وشنًّا، وأنتَ أميرٌ! أعندكَ طعامٌ؟ فقامَ أبو عبيدةَ إلى جَوْنةٍ فأخذَ منها كسيراتٍ مِنْ خبزٍ يابسٍ؛ فانهارَ أميرُ المؤمنينَ بالبكاءِ لهذا المشهدِ! يبكي عمرُ وأبو عبيدةَ يهدِّئ مِنْ روعِهِ، ويقولُ لهُ: قَدْ قلْتُ لكَ إنَّكَ ستعصرُ عينيكَ عليَّ، ولكنْ يا أميرَ المؤمنين، هذا يُبَلِّغُني المقيلَ. قَالَ عمرُ: غَيَّرَتْنا الدُّنْيا كلُّنا، إلَّا أنتَ يا أبا عبيدةَ! [تاريخ  ابن عساكر25/481].
يا اللهُ! يا اللهُ! مِنْ أَيِّهِمَا نعجبُ؟ ماذا تغيَّرَ فيكَ يا عمرُ وقَدْ نَحُلَ جسمُكَ، واسوَدَّ جلدُكَ مِنْ أكلِ الخبزِ اليابسِ والزَّيْت، ماذا تغيَّر فيكَ وقدْ اتَّخَذَت الدُّموعُ خطَّيْنِ أسودينِ على وجهِك، يا لَهَا من عظمةٍ! يا لَهَا مِنْ عظمةٍ!.
كانَ أبو عبيدَةَ ممَّنْ جمعَ القرآنَ الكريمَ، وكانَ ممَّنْ روى الأحاديثَ عَنْ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وقَدْ عَطَّرَ الدُّنْيَا، وأسعدَ الألبابَ، وأمتعَ الأسماعَ بكلماتٍ له سائرةٍ، وعباراتٍ عاطرةٍ، وأحاديثَ آسرةٍ، كانَ يسيرُ في العسكرِ، ويتنقَّلُ بينَ الجندِ، وهُوَ يهتفُ قائلًا : أيُّها الناسُ! ألا رُبَّ مبيِّضٍ لثيابِهِ مدنِّسٍ لدينِهِ، ألا رُبَّ مكرمٍ لنفسِهِ وهُوَ لها مهينٌ، بادِرُوا السيئاتِ القديماتِ بالحسناتِ الحديثاتِ، فلو أنَّ أحدَكُمْ عَمِلَ مِنْ السَّيِّئاتِ ما بينَهُ وبينَ السماءِ ثمَّ عَمِلَ حسنةً لَعَلَتْ فوقَ سيِّئاتِهِ حتى تقهرَهُنَّ.[ابن أبي شيبة في مصنفه:7/116، ابن ماجة:4027، وصحَّحه الألباني].
 وكانَ أبو عبيدةَ لا يسمحُ لِذَرَّةٍ مِنْ ذرَّاتِ الكِبْرِ، أو دافعٍ مِنْ دَوافع الخيلاءِ أَنْ تسريَ إلى نفسِهِ، أو تتسرَّبَ إلى وجْدَانِهِ، فحينَ رأى النّاسَ يعجبونَ بإمارتِهِ، ويتحدَّثونَ عَنْ عظمتِهِ، ويهتفونَ بشجاعتِهِ قامَ فيهم خطيبًا فقالَ: "يا أيها الناسُ! إني مسلمٌ مِنْ قُرَيشٍ، وما مِنْكُم مِنْ أحدٍ أحمرَ ولا أسودَ يَفْضُلُني بتقوى إلا وَدِدْتُ أنّي في إهابِهِ".
هكذا يَقْتدي أبو عبيدةَ بحبيبِهِ وقدوتِهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينما دخلَ إلى مكةَ فاتحًا منتصرًا، جاءَهُ رجلٌ يكلِّمُهُ وهُوَ يرتعدُ إجلالًا وإكبارًا ومهابةً، فقالَ لَهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَوِّنْ عليكَ! فإنِّي لسْتُ بمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنا ابنُ امرأةٍ تأكلُ القديدَ". [ابن ماجة3312، وصححه الألباني].
وهكذا ظَلَّ هذا المجاهدُ العظيمُ يفتحُ البُلدانَ، وينشرُ الإيمانَ، وينيرُ الأوطانَ، حتّى ظَهرَ بالشّامِ في بلدةِ عَمْواسَ مرضٌ مُهْلِكٌ، وطاعونٌ فاتكٌ، فبدأَ يحصدُ النَّاس حَصْدًا، وإذا بِجُثَثِ المسلمينَ تتهاوى بالآلافِ المُؤلَّفَةِ مِنْ هذا الطّاعونِ المُذهِلِ الَّذي ذهبَ ضحيَّتَهُ أعدادٌ هائلةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-.
وحِيْنَما رأى عمرُ هذا الخطرَ الدّاهمَ، والموتَ الزُّؤامَ، أرادَ أَنْ يصنعَ حيلةً لأبي عبيدةَ ليخرجَهُ مِنْ الشَّامِ كي ينجوَ مِنْ الطّاعونِ، فكتبَ إليهِ عمرُ: إنَّهُ قَدْ عرضَتْ لي حاجةٌ، ولا غِنى بي عنكَ فيها، فعجِّلْ إليَّ"، فلمّا قرأَ الكتابَ، عرفَ قصدَ عمرَ فقالَ: عرفْتُ حاجةَ أميرِ المؤمنينَ، إِنَّهُ يريدُ أن يستبقِيَ مَنْ لَيسَ بباقٍ؛ فكتبَ إلى عمرَ: إِنِّي قَدْ عَرفْتُ حاجتَكَ، فحَلِّلْنِي مِنْ عزيمتِكَ، فإني في جندٍ مِنْ أجناد المسلمين لا أرغبُ بنفسي عنهم. فلمّا قرأَ عمرُ الكتابَ بكى، فذُعِرَ الصَّحابةُ وقالوا : هل ماتَ أبو عبيدةَ؟ قالَ: لا، وكأَنْ قَدْ.
وحيْنَما رأى أبو عبيدةَ أصحابَهُ يتهاوَوْنَ واحدًا واحدًا، ويفتكُ بِهِمْ الطّاعونُ، وهُوَ لا يزالُ سليمًا معافًى، اتَّجه إلى ربِّهِ، ورفعَ كَفَّيْهِ قَائلًا: اللَّهُمَّ! نصيبَكَ في آلِ أَبي عُبيدةَ! فخرجَتْ في كفِّهِ بُثْرَةٌ صغيرةٌ، فَفَزِعَ منها أصحابُهُ، وعرفُوا أنَّه بدايةُ الطَّاعون في جسدِ أَبي عُبيدةَ، فلمّا رأى خوفَهُمْ وقلقَهُمْ نظرَ إليهم مبتسمًا ثُمَّ قالَ: والله! ما أحبُّ أنَّ لي مكانَها حُمُر النَّعمِ!.
بدأَ المرضُ يشتدُّ، والكربُ يَعْظُمُ، وسكراتُ الموتِ تداعبُ روحَ أبي عبيدةَ، فيأتي إليهِ زُوَّارُهُ، فيستقبلُهُمْ بصدرٍ رحبٍ، وإيمانٍ وثيقٍ، ويقينٍ عميقٍ، ثمَّ يعطِّرُ أسماعَهُمْ بشيءٍ مِنْ أَحاديثِ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ينظرُ إلى زُوّارِهِ والمرضُ يفتكُ بِهِ، والطّاعونُ يَلْتَهِمُ أحشاءَه، فيقولُ : سمعْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "مَنْ أَنْفَقَ نفقةً في سبيلِ الله فبسبعمائةٍ، ومَنْ أنفقَ على نفسِهِ وأهلِهِ أو عادَ مريضًا أو ما زادَ فالحسنةُ بعشرِ أمثالِها، والصومُ جُنَّةٌ ما لَمْ يخرِقْها، ومَنْ ابتلاهُ اللهُ ببلاءٍ في جسدِهِ فهُوَ لَهُ حِطَّة". [البيهقي9/171، وصححه الحاكم].
ثمَّ دخلَ عليه وَفْدٌ من أصحابِهِ يزورونَهُ وهُوَ في الرَّمَقِ الأخيرِ فلَمْ يجعلْهُمْ يخرجُوا حتّى ضوَّعَ مجلسَهُمْ بأريجٍ مِنْ دُرَرِ كلامِهِ العذبِ فقال لَهُمْ: "إنِّي مُوْصِيْكُمْ بوصيَّةٍ، إِنْ قبلتمُوها لَنْ تزالوا بخيرٍ: أقيموا الصلاةَ، وآتُوا الزَّكاةَ، وصُومُوا شهرَ رمضانَ، وتصدَّقوا، وحُجُّوا، واعتمرُوا، وتواصَوْا وانصحُوا لأمرائِكُمْ ولا تغشُّوهُمْ، ولا تُلْهِكُمْ الدُّنْيا، فإِنَّ امرأً لَوْ عَمَّرَ ألفَ حولٍ ما كانَ لَه بُدٌّ مِنْ أَنْ يصيرَ إلى مصرعي هذا الذي ترونَ، إنَّ اللهَ كتبَ الموتَ على بَني آدمَ فهُمْ ميِّتُونَ، وأكْيَسُهُمْ أَطْوَعُهُم لربِّهِ، وأعملُهُمْ ليومِ معادِهِ، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله. يا معاذَ بنَ جبلٍ، صلِّ بالنّاسِ".
ثمَّ شخصَ أبو عبيدةَ ببصرِهِ للسَّماءِ وهُوَ يُتَمتِمُ: أشهدُ أَنْ لا إِلَه إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله؛ ثمَّ فاضَتْ روحُهُ، ورحلَ إلى ربِّهِ.
وجَاءَ الخبرُ إلى عمرَ -رضي الله عنه- فبكى لوفاةِ أبي عبيدةَ، وبكى الصحابةُ، وخيَّمَ على المدينةِ ليلٌ مِنْ الحزنِ، فأمسَتْ القُلوبُ لها أنينٌ، والصُّدورُ لها أزيزٌ، والأفئدةُ لها نشيجٌ، ولم يكنْ عمرُ لِيَنْسى أبا عبيدَةَ أبدًا، فها هُوَ يدخلُ في يومٍ مِنْ الأيّامِ على بعض أصحابِةِ وهُمْ يتمنَّوْنَ أُمنيّاتٍ متعددةٍ، فقالُوا لعمرَ: تمنَّ يا أميرَ المؤمنينَ! فأطرقَ عمرُ في حزنٍ وألمٍ، وتحدَّرَتْ عَيناهُ بالدُّموعِ، ثمَّ قَالَ : أتمنّى بيتًا ممتلئًا رجالًا مثلَ أبي عبيدةَ بنِ الجرَّاحِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق