الخميس، 10 يناير 2013

ما جعل عليكم في الدين من حرج


هذا الدين قائم علىٰ التيسير، مبنيٌّ علىٰ الرفق، محفوف بالرحمة، مزين بالعفو، مجمَّل بالغفران، بعيد عن الحرج، مناف للعنَت، مناقض للعنف.
والتيسير مقْصَد أساسي من مقاصد شريعة الإسلام، قال تعالىٰ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وقال تعالىٰ: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28]، وقال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج:٧٨].
إن هذه الآيات العظيمة تبين بجلاء روعة الدين، ويسر الإسلام، ولطف المولىٰ -جل وعلا- بعباده؛ إنها ترسم المنهج الأسمىٰ، والطريق الأزكىٰ لحملة هذه الشريعة وأربابها. ويا عجباً لبعض العقول التي تتحجر عن الفهم، وتنكص عن الوعي! فهذا خالق الكون، ورب البشر، ومنزل الكتب، ومرسل الرسل، ينفي عن شريعته العسر والعنت والحرج والإصر والمشقة، ثم يأتي بعض الخلق فيريدون لهذه الشريعة خلاف هذه المعاني، وما يضادّها بفهمهم الوعر، ونهجهم العسر، وتصرفاتهم المتعنتة!.
وإن من تيسير الله تعالىٰ لهذا الدين أن جعل نبيه يسيراً ميسراً، ومنّ عليه بأحسن الأخلاق، وأسمىٰ الصفات، فكان عفواً رحيماً رفيقاً، سمحاً سهلاً، هيِّناً ليِّناً، ولو كان فظاً غليظ القلب لانْفَضَّ الناسُ مِن حولِهِ.
وجعل الكتاب الذي أنزله عليه يسيراً بيِّناً، سمحاً لطيفاً، بديعاً جميلاً جذاباً، قال عنه تعالىٰ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، وقال تعالى: (فَإِنَّما يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) [مريم:97]. قال الرازي: ولم يكن شيء من كتب الله تعالىٰ يحفظ عن ظهر قلب غير القرآن. فهو يسير في حفظه، يسير في تلاوته، يسير في فهمه.
والمتأمل لأخلاقه -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأفعاله يجدها معطرة بأريج اليسر، مطيبة بشذا الرفق، مزينة بروائع العفو؛ ها هو -صلى الله عليه وسلم- يبشر أمته باليسر فيقول: "إنكم أمة أريد بكم اليسر" أخرجه أحمد وصححه الألباني.
وها هو -صلى الله عليه وسلم- يبين أن الدين الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دين اليسر والسهولة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" أخرجه أحمد وصححه الألباني. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" أخرجه البخاري.
ويوصي أصحابه باليسر والتبشير، والبعد عن العسر والتنفير، فيقول -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسىٰ الأشعري ومعاذ بن جبل لما بعثهما إلىٰ اليمن: "يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتَطَاوَعَا ولا تختلفا" متفق عليه.
ويتحدث -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه بخبر يريده أن يكون نهجاً لكل من يمشي علىٰ أثره، ويتبع سنته -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: "إن الله لم يبعثني مُعنتاً متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيَسِّراً" أخرجه مسلم.
فهذا هو ديننا، وهذه هي شريعتنا، سمحة سهلة يسيرة؛ وليس معنىٰ يسر الشريعة خلو التكاليف الشرعية من المشقة أو التعب، بل ما سمي التكليف بهذا إلا لأنه فيه كلفة ومشقة، ولكنها مشقة محتملة، ومصلحتها راجحة، وليس فيها ما لا يطاق؛ وإن الحياة عموماً مشقة وتعب ونصب: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4].
فالتكاليف الشرعية فيها مشقة، وتحتاج إلىٰ صبر ومجاهدة، والجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، ومخالفة الهوىٰ أمر مكلف، ومعاندة النفس أمر مكلف، والمداومة علىٰ الطاعات أمر مكلف، وتحري الحلال أمر مكلف، والغربة في الدين أمر مكلف، ولكن الجنة سلعة غالية، وثمنها غال، ومع ذلك فالطريق إليها سهل يسير علىٰ من يسره الله عليه، ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45]، (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء:19].
وهذه نظرة عابرة نجلي فيها شيئاً من روائع يسر هذه الشريعة:
1/ ما ذكرناه من لطف الله تعالىٰ، وعفوه، وسعة رحمته، ومغفرته، ورفعه للحرج والعنت، والإصر والأغلال؛ وأمره لعباده بالأعمال اليسيرة، اليسيرة جداً، وإعطائهم علىٰ ذلك الثواب الكبير، الكبير جداً! وما هيأه سبحانه من أبواب التوبة والعفو لدرجة أن يترنم الإنسان بكلمات الاستغفار فتنسف ذنوبه نسفاً ولو بلغت عنان السماء!.
ومن تيسيره تعالىٰ كذلك تيسيره لعباده الكِتاب الذي أنزله إليهم وجعله أيسر كتبه، وأكثرها بركة وشمولاً، وروعة وسلاسة وبلاغة، وهدىٰ ورحمة وشفاء.
وكذلك اصطفاؤه -جل وعلا- لهذا النبي الكريم الرحيم اليسير الميسر، وأمره له باليسر والرحمة، والعفو والتسامح: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران:159]، (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، (فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران:159].
3/ ومن يسر الشريعة الإسلامية، يسر إدراكها وتعلمها ومعرفتها والإلمام بها؛ فليست صعبة المنال، ولا معقَّدة الفهم، ولا عسيرة الاستيعاب، بل لقد كان الرجل يأتي إلىٰ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيعلمه الإسلام في لحظات، ويشرح له الدين في كلمات، وشواهد ذلك كثيرة جداً؛ منها أن معاذاً -رضي الله عنه- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعـدني عن النار، قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير علىٰ من يسَّره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجُّ البيت" أخرجه الترمذي.
3/ ومن يسر الشرعية يسر تكاليفها وأوامرها وطاعاتها؛ فأركانها التي تقوم عليها خمسة، وهي في غاية اليسر؛ فأولها مجرد كلمة تقال باللسان، وتعتقد بالجنان، وهي الشهادتان، وبها يعصم الإنسان دمه وماله وعرضه ويدخل في دائرة المسلمين.
وثاني أركانها الصلاة، فهي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأجرها أجر خمسين صلاة، ومجموع وقتها لا يتجاوز النصف ساعة من أربع وعشرين ساعة، وما يقال فيها وما يحفظ من القرآن لأدائها بضع آيات، فسورة الفاتحة هي الأساس في الصلاة، وهي سبع آيات فقط، ويكفي معها ثلاث آيات أو آية واحدة، أو ما تيسر من القرآن، وركعاتها أطولها أربع ركعات، ومع قصرها، فإنها تقصر في السفر وتجمع، والمريض يصليها كيفما استطاع، وتسقط عن الحائض والنفساء ولا تؤمر بقضائها، إلىٰ غير ذلك من يسر الصلاة؛ إضافة إلىٰ بركاتها وفوائدها الصحية والجسمية والروحية والنفسية وما إلىٰ ذلك.
والركن الثالث هو الصيام، شهر واحد من اثني عشر شهراً، وفيه من اليسر والفضل والأجر الشيء الكثير، مع ما فيه من الرخص للمسافر والمريض والكبير، والحائض والنفساء والحامل التي يجوز لها الفطر إذا خافت علىٰ نفسها أو جنينها، إلىٰ غير ذلك من يسر الصيام، وما فيه من المنافع الحسية والمعنوية.
والركن الرابع هو الزكاة، وهي مجرد نسبة ضئيلة من مال الإنسان، اثنان ونصف في المائة، مع ما فيها من المنافع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والروحية.
والركن الخامس هو الحج؛ فهو مرة واحدة في العمر، ولمن استطاع، وأما الذي لا يستطيع فهو مُعْفَىًٰ من الحج وتكاليفه؛ ومع ذلك فالحج كله يسر وسهولة، فما سئل -صلى الله عليه وسلم- في الحج عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" متفق عليه. وهكذا تتجلىٰ الروعة واليسر والسهولة في تكاليف الدين ومطالبه.
4/ ومن يسر الشريعة كثرة المباحات، وقلة المحرمات والممنوعات، فالأصل في كل شيء الحل إلا ما جاء الشرع بتحريمه، سواء في المعاملات أو المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات، فنسبة الممنوعات لا تصل حتىٰ إلىٰ واحد في الألف، ولك أن تنظر فيما خلق الله في الكون! كم هو المباح فيه، وكم هو المحرم!.
وعلىٰ سبيل المثال، لو دخلت إلىٰ أعظم وأكبر مركز للتسوق وجدت أن الحرام فيه أشياء محدودة، ومع ذلك فتحريمها لسبب بَيِّن وعلة واضحة، فلو لم يكن فيها ضرر أو خطر علىٰ الإنسان ما حرّمت، فلم يحرم الله علىٰ عباده أمراً جميلاً مفيداً طيباً علىٰ الإطلاق، إلا إذا كان فيه ما يضر دينه أو صحته أو عقله، وما عدا ذلك فقد جاء التحذير والنهي عن تحريمه علىٰ عباد الله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف:٣٢]، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) [النحل:116].
5/ من يسر الشرعية سهولة المعتقد، ووضوح المنهج، وصفاء الدين، فلا تعقيد، ولا غموض، ولا متناقضات، ولا التواءات، ولا وسائط بين العبد وربه، ولا تشتيت، ولا تشديد، ولا تمحُّل، ولا تكلف، بل عقيدة سهلة سلسلة واضحة، جلية نقية، متوافقة مع صفاء الفطرة، ونقاء النفس، وسلامة العقل.
6/ ومن يسر الشريعة عدم جعل ما يشق ويرهق ركناً من أركان الدين، أو شرطاً من شروط الإسلام، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق علىٰ أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أخرجه مسلم.
ومن ذلك تركه -صلى الله عليه وسلم- لصلاة التراويح جماعة خشية أن تفرض علىٰ أمته، بل حتىٰ الأوامر كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه. ويقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) [التغابن:١٦]، ويقول تعالىٰ :(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286].
إن يسر شريعة الإسلام أمر واضح جلي، بيّن معروف، تدركه العقول السليمة، وتعرفه النفوس القويمة، فالحمد لله علىٰ آلائه، والشكر له علىٰ نعمائه.
7/ ومن يسر الشريعة أن جعل الله تعالىٰ ما تميل إليه النفوس من شهوات ورغبات، وبعض مظاهر اللعب واللهو عبادات، فيستمتع الإنسان بها، وكذلك يثاب عليها ويؤجر، وهذا باب طويل جميل، يحتاج إلىٰ مزيد شرح وتفصيل ليس هذا مكانه.
8/ ومن يسر الشريعة أن تقوىٰ الله تعالىٰ والصدق معه وعمل الصالحات ييسر للمرء طريق الجنة، ويسهل عليه التكاليف، ويعبد أمامه الطرق، ويذلل له الصعب، قال تعالىٰ:: (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]، وقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) [الكهف:88].
9/ ومن يسر الشريعة -مع كل ما ذكر- أن الله تعالىٰ أمر عباده أن يدعوه بأن ييسر لهم أمورهم، ويسهل عليهم عباداتهم، ولا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يحملهم ما لا يحتملون؛ ثم وعدهم بإجابة دعائهم، وتحقيق رجائهم؛ فمن دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة:286]، فيقول تعالى: "قد فعلت" أخرجه مسلم.
وإن دعاء المؤمنين بتيسير الأمور من أفضل ما يدعون به لأنفسهم ولغيرهم، فهذا نبي الله موسىٰ عليه السلام عندما أراد الذهاب إلىٰ فرعون قال: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه:25-26]، ومن دعاء نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "رب أَعِنِّي ولا تُعِنْ عَلَيَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدِني ويسِّر هداي إليَّ" أخرجه الترمذي وصححه.
وفي الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلىٰ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني أريد سفراً فزوِّدني، قال: "زودك الله التقوىٰ"، قال: زدني، قال: "وغفر ذنبك". قال: زدني، بأبي أنت وأمي! قال: "ويسَّر لك الخير حيثما كنت" أخرجه الترمذي وحسَّنه.
وفي دعاء الاستخارة الذي علمنا إياه -صلى الله عليه وسلم- يقول المسلم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه" البخاري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق