الخميس، 10 يناير 2013

نهاية رمضان


قبل أيام كنا نحتفي ونحتفل بقدوم شهر رمضان، وها نحن الآن نودعه، مرت أيامه، وانقضت ساعاته، وأزف رحيله؛ اليوم يُختَم القرآن، وغدا يختم رمضان، وبعد غد يختم العام، وبعده -أو ربما قبله- يختم العمر، كل ذلك كأنما هو أحلام، يعيش الإنسان سنوات طويلة، ويمر بأحداث كبيرة، ويحيا زمناً طويلاً قد يتجاوز الثمانين سنة أو التسعين أو المائة، ومع ذلك يرى أن ما مر من العمر إنما هو أحلام عابرة، وأيام معدودة.
وهكذا يكون إحساس الإنسان بالزمن، حتى يوم أن يقف بين يدي ربه فيُسأل عن عمره على ظهر الدنيا فيظن أنه كان يوماً أو بعض يوم! (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون:112-114]، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) [طه:102-104].
هكذا مرت أعمارنا، وهكذا انقضت أيامنا، وكأنها أحلام نسينا ما أودعنا فيها، نسينا ما عملنا، نسينا ما قدمنا، ولم يبق لنا منها إلا طيف ذكريات معينة؛ ولكن هنالك من أحصى علينا كل صغيرة وكبيرة، ولو نواجه ما عملناه في أسبوع لرأينا العجب العجاب، فكيف بما عملنا في عشرات السنين؟(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29]، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
هكذا تمضي السنوات، وهكذا تنقضي الأشهر، وهكذا تنصرم الأيام، وإن التفاوت والتمايز هو بالنظر إلى النتائج في ختام كل عام وكل شهر، بل وكل يوم، السنة تمضي ولن تعود، الشهر ينقضي ولن يرجع، لو بذلت الدنيا كلها لاسترجاع يوم مضى فلن يتم ذلك، فهي الحسرة والندامة والألم والله لمن انقضى شهره، وذهب يومه وهو في غفلة منه، فكيف إذا مضى وهو مشوه بالمعاصي، مسود بالذنوب، ملطخ بالآثام؟.
وإنما الفرحة والسرور، والأنس والحبور، والراحة والسلوان إذا غادر الشهر وغربت شمس اليوم، ولعله يتزين بأريج عملك الصالح، ويتطيب بشذا فعلك المبارك، ترتقي به درجاتك، وتقطع معاناتك، ويرضى عنك ربك، "ما من يوم ينشق فجره إلا ومناد ينادي: يا بن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى قيام الساعة".
يا الله! ما أعظم البشرى! وما أهنأ النتائج لمن اغتنموا شهرهم، وأطاعوا ربهم، وأحسنوا الصيام، واجتهدوا في القيام، وتدارسوا الوحي، وتفننوا في البذل والفضل والعطاء! مضى شهرهم وهو عنهم راضٍ، وبهم مسرور، فَرِحٌ بأعمارِهم، مُتَحَدِّثٌ عن أخبارهم؛ صبروا ساعات فظفروا برفعة الطاعات، يالها من أفراح! يا لها من مكاسب! يا لها من نعم! (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
هنيئاً لكم يا أرباب الطاعة، هنيئاً لكم يا أصحاب الصلاة، هنيئاً لكم يا قرّاء القرآن، هنيئاً لكم يا من بذلتم الأموال، وجدتم بالعطاء، وأفضتم بالإحسان، وصليتم التراويح، وتزودتم من الخير، وختمتم صيامكم، وحفظتم جوارحكم.
إنه، في يوم مثل هذا اليوم، في يوم الجمعة، ستقوم الساعة، وينفخ في الصور، ويبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ويعظم الهلع، ويكبر الفزع، وتطيش الأحلام، وتكون الجبال كالعهن المنفوش، والناس كالفراش المبثوث، ويقوم الناس لرب العالمين، وخشعت الأصوات فلا تسمع إلا همساً، في مثل ذلك اليوم ستأتون وأنتم بقلوب هادئة ونفوس مطمئنة، وأرواح مَرْضِيَّة.
تأتون والقرآن يضيء طريقكم، والصيام يحاجج عنكم، والصلاة تنير وجوهكم، والصدقة تظلكم، فيباهي بكم الرب، ويتنزل عليكم الرضا، وتحييكم الملائكة، وتُفتح لكم أبواب الجنان، (وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر:73-74].
إنه بقدر ما يمضك الألم، ويعتصرك الأسى، لمن فرطوا في الطاعة، وتكاسلوا عن الخير، وغفلوا عن رمضان، وناموا عن القربات، فإن الأعظم أسى، والأكثر حسرة، والأشد مصيبة، أولئك الذين جعلوا من هذا الشهر ميداناً للمعاصي، وتسابقاً للرذائل، وتباهياً بالغش، وتنافساً في الأهواء؛ لم يراعوا ديناً، ولم يحترموا شهراً، ولم يتقوا رباً.
يجاهرون بالمعاصي، ويتبجحون بالدنايا، الناس في صيام وهم في هيام، المؤمنون يسهرون على القيام، وهم يترنمون على الأنغام، العباد يرتلون القرآن، وهم يتمايلون على الألحان، الخيِّرون يتصدقون، وهم يتشدقون؛ ورَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يغفر له فيه، فيا للندامة، ويا للحسرة، ويا للخسران! هكذا غادر الشهر، هكذا مرت الأيام، فما أعظم الفرق بين أناس وأناس! وما أشد التباين بين فئام وفئام!.
ومع كل ذلك، فيا من فاتك الركب، وفاتك الحظ، وتجاوزتك الرحلة، فإنك في كنف رب رحيم، ومولى كريم، وعزيز غفور، لم يقفل في وجهك الأبواب، ولم يقطع عنك الأمل، ويوصد أمامك الفرص، بل ها هو لايزال يناديك، ويفتح لك الأبواب، ويزين لك التوبة، ويتحبب إليك بالنعمة.
هاهو يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ها هو يدعوك إلى رحمته، ويحذرك من القنوط (قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]؛ يسبغ عليك الألطاف، ويقبلك رغم الإسراف.
فتدارَك نفسَك، اغتنم حياتك، الحق بالقافلة، اكسب الفرصة، فقد بقي من الشهر بقية، ولو لم تكن إلا ساعة واحدة بادِر باغتنامها، فلعل الله يكتب لك فيها خيراً كثيراً؛ واعلم أن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، فلا تغرنك الأماني والآمال والتسويف، ولا يغرنك بالله الغَرور، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25].
أيها المؤمنون: لقد شرع الله في ختام هذا الشهر المبارك عباداتٍ عظيمةً، وأعمالاً كريمةً، يُختَم بها الشهر، وَيَعْظُمُ بها الأجر، وتزكو بها النفوس؛ ومن ذلك صدقة الفطر، التي هي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وشكر لله على النعمة، وإحسان للمسلم الفقير، وهي عن كل فرد صاع من البر أو التمر أو الأرز، أو غير ذلك من الأطعمة الطيبة. ووقت إخراجها يبدأ بغروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين.
ومما شرعه الله في ختام هذا الشهر التبكير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]؛ ومما شرعه الله في ختام الشهر صلاة العيد، وهي من تمام ذكر الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً كثرة الاستغفار، فإن الأعمال العظيمة دائماً تـُخْتَم بالاستغفار، نسأله -جل وعلا- أن يغفر لنا، وأن يتجاوز عنا.
ومن أراد أن يكون صيامه كصيام الدهر؛ فعليه بستٍّ من شوال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق