الخميس، 10 يناير 2013

الورع


الإيمان مراتب، والإسلام درجات، والتقوى منازل، والناس متفاوتون في ذلك تفاوتا كبيرا، وعلى قدر ترقِّي الإنسان في مراقي الكمال تكون مرتبته عند ربه -جل وعلا-، وتكون منزلته في الجنة.
وإن من السهولة بمكان أن يكون المسلم مصليا أو صواما أو قَوَّاما أو داعية أو خطيبا أو معلما أو حتى عالما، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون ورعا؛ فإن الورع رتبة عزيزة المنال، رفيعة المكان، بعيدة الشأو؛ ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب، وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله لمنزلة النبيين والصديقين والشهداء.
وإن ما نلاحظه من قلة البركة، وفساد الثمرة، وتردي الأخلاق، وكثرة الشقاق، والانكباب على الشهوات، والتلطخ بالشبهات، والانهماك في الملذات، والتهاون بالذنوب، وضياع الحقوق، وفشو الفسوق، ومظاهر العقوق؛ لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع، فما الورع؟ وما درجاته؟وما أقسامه؟ وما مظاهره؟ ومن أهله؟ وما ثمرته؟!.
الورع كلمة تدل على الكف عن الشيء والانقباض عنه، وقيل هو بمعنى التحرج.
والورع في الشرع ليس هو الكف عن المحارم، والتحرج منها فقط؛ بل هو بمعنى الكف عن كثير من المباح، والانقباض عن بعض الحلال؛ خشية الوقوع في الحرام.
وقد وردت تعريفات كثيرة للورع، منها قولهم: الورعُ ترْكُ ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق. وقيل: هو تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات. وقال ابن تيمية -رحمه الله-: هو الورع مما قد تخاف عاقبته. وقال ابن القيم -رحمه الله- : هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. وقيل: هو عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا. وقيل: هو ترك كل شبهة. وقال يحيى بن معاذ : الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن؛ فورع الظاهر أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سوى الله. وقال آخر : الورع هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
يا الله! الخروج من كل شبهة! محاسبة النفس في كل طرفة! انظر لهذا التعريف وما سبقه من تعريفات للورع، ولنعرض أنفسنا وأحوالنا وأعمالنا على مفهوم الورع، أظنه في واد ونحن في واد -إلا من رحم الله-! أين نحن من تجنب الشبهات؟ أين نحن من عدم التسرع إلى تناول أعراض الدنيا؟ أين نحن من الإحجام عما يخشى ضرره، وتخاف عاقبته؟ هي تعريفات لها أهميتها البالغة، ودلالاتها العميقة.
أكثر الناس اليوم يهمه أن يجمع المال، وأن يصل إلى غرضه، وأن يحقق مآربه في الدنيا؛ أما السؤال عن الحرام والحلال، والأجر والإثم، والجواز والمنع، والريبة وعدمها، فذلك آخر ما يفكر فيه الإنسان إنْ فكَّرَ! ولذلك ترى كثيرا من الناس ينساقون وراء معاملات تجارية، وفرص استثمارية، وعروض مصرفية، ومسابقات عجيبة، ودعوات غريبة، دون تريث في الأمر، والتفات إلى الشرع، وسؤال عن الحكم، وبعضهم قد امتلأ بطنه، وعظم رصيده، وغذي بالحرام جسمه.
أين نحن من قولهم: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وأن لا يدخل في قلبه سوى الله؟! أين نحن من قولهم: محاسبة النفس في كل طرفة عين؟! فمَن علِم أنه محاسب على مثقال الذرة وجب عليه أن يحاسب نفسه في كل طرفة عين.
ومما مضى من التعريفات يظهر لنا أن الورع هو في البعد عن المحرمات، والكف عن الشبهات، والتخفف من المباحات، ومحاسبة النفس على كل عمل، والبعد بها عن كل زلل؛ ولكن هنالك نوعا من أهم أنواع الورع، وأعظمها درجة، وأشدها خطورة، وهو الورع في المنطق، والورع في المنطق يدل على سلامة النفس، وينبئ عن صفاء القلب، ويدل على قوة الإيمان؛ وإن الورع في المنطق والأقوال أشد وأشق من الورع في الأفعال، يقول أحد السلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة.
إن من الناس من يستطيع أن يملك نفسه ويكفها عن الشهوات والشبهات، ولكنه لا يستطيع أن يسجن لسانه، ويملك بيانه، فلا ينطق إلا بخير، ولا يتكلم إلا بمعروف، ولا يحدث إلا بصدق وعدل وحق، لا يخوض فيما لا يعنيه، ولا ينال مسلما بما لا يرضيه، ولا يرمي بريئا بما ليس فيه، ولا يتتبع العورات، ولا يتصيد العثرات، ولا يشهر بالهفوات، فمن وفق إلى الورع في حفظ اللسان، فقد بلغ الغاية في مراتب الإيمان. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" صحيح ابن ماجة.
 ما درجة الورع؟ درجته عالية، ورتبته رفيعة، ومنزلته بعيدة لا يصل إليها إلا الخُلَّصُ من الناس، ولا يرتقي إليها إلا الأفذاذ من العباد؛ ولذلك تجد أن الذين اشتهروا بالورع على مر التاريخ هم أناس قلائل، وأفراد أوائل، وإذا قيل في القرون المفضلة: لولا سفيان الثوري لمات الورع. فما بالك ببقية القرون؟ فالورع مرتقى صعب، ومرتبة شاقة، وهو ملاك الدين، وجوهر التقوى، وزمام الأمر.
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة -أي النفل-. وقال محمد بن واسع-رحمه الله-: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير منه.
وقال حبيب بن أبي ثابت -رحمه الله-: لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعا -مع ما رزقه الله من العبادة- فهو عبد لله حقا.
تصلي وتصوم وتتلطخ بالشهوات والشبهات! تصلي وتصوم وتجمع الأموال بكل طريق حلال أو حرام! تصلي وتصوم وتطلق لسانك في عباد الله، تصلي وتصوم وتحسد وتحقد وتبغي في الأرض بغير الحق! هذه صفات ليس بينها وبين الورع وفاق، وليس لها معه عهد ولا ميثاق. يقول بعض الصحابة- رضي الله عنهم جميعا-: كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام. وهذا موافق لحديث ضعيف الإسناد، صحيح المعنى، هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس" ضعيف ابن ماجة. وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "خير دينكم الورع" صحيح الجامع.
لقد قسَّم بعض العلماء الورع إلى ثلاثة أقسام: واجب، ومندوب، وفضيلة. أما الواجب فهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة؛ وأما المندوب فهو الوقوف عن الشبهات، وذلك للأواسط؛ وأما الفضيلة فهو الكف كثير من المباحات، والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ومظاهر الورع كثيرة جدا، فالورع يكون في النظر بحفظه عن الحرام، وغضه عن الفتن، ويكون في السمع، ويكون في اللسان، ويكون في البطن، فلا يأكل أو يشرب إلا ما اطمأنَّ إلى جوازه ونفعه، ويكون في الفرج بحفظه عما حرم الله، ويكون في المشي والسفر، ويكون في البيع والشراء.
وإليك الآن بعض النمادج الرفيعة لأرباب الورع: أولهم أعظم الناس إيمانا، وأكملهم ورعا، محمد-صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي عاش يبث في نفوس أصحابه مفهوم الورع، وعبقا من حقيقة التقوى، بقوله، وفعله، وسَمْته، وخلقه.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" صحيح الجامع. وهذه الإجابة وذلك التوجيه للإنسان المؤمن، أما الفاسق والفاجر فإن الإثم لا يحوك في صدره، بل ربما يتلذذ بالمعاصي، ويستمتع بالآثام، وهي متع ظاهرة، وتلذُّذٌ مغشوش؛ ولكن المسلم يجد لصدره انفساحا، ولفؤاده انشراحا، مع البر ودروبه؛ ويجد في صدره ضيقا، وفي قلبه حرجا، حين التلبس بالإثم ودواعيه.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لن تدع شيئا اتقاء لله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه" رواه أحمد. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة" صحيح الجامع.ويُعطي -صلى الله عليه وسلم- قاعدة عظيمة في الورع، فيقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه أحمد والنسائي؛ وجمع -صلى الله عليه وسلم- الورع كله في كلمة، فقال : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" صحيح ابن ماجة. وترك ما لا يعني كلمة عامة تعم كل شيء، ترك ما لا يعني من الكلام، وما لا يعني من النظر، ومن الاستماع، ومن المشي، ومن الفكر، ومن سائر الحركات الظاهرة والباطنة، فمَن ترك ما لا يعنيه من كل ذلك فقد ارتقى إلى مرتبة أهل الورع.
انظر إلى مثال من أصدق الأمثلة على الورع في المأكل والمشرب، يقول صلى الله عليه وسلم: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" صحيح الجامع.
وكان صلى الله عليه وسلم يروي لأصحابه بعض قصص الورع لتكون نبراسا لهم، يمضون على نهجها، ويقتبسون من هديها، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدقوا" صحيح الجامع.
ولقد زرع هذا الورع البديع في نفوس أصحابه -رضوان الله عليهم- فساروا على النهج، واقتفوا الأثر، واتبعوا القدوة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام : أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يدَه فقَاءَ كلَّ شيءٍ في بطنه. وفي رواية أنه قال: "لو لم تخرج إلا بروحي معها لأخرجتها.
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ‏ قسَّم مروطا بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض مَن عنده: يا أمير المؤمنين! أعْطِ هذا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي عندك. يريدون أم كلثوم بنت علي. فقال عمر: أمُّ سليط أحق به. وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القِرب يوم أحد.
الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وهو صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله -عز وجل- وملائكته، وعباده المؤمنين، وسائر خلقه؛ فإن من كرُمت عليه نفسه، وكبرت، عنده صانها وحماها، وزكَّاها وعلَّاها؛ ومن هانت عليه نفسه، وصغرت عنده، ألقاها في الرذائل، وأطلق عنانها، وحل زمامها.
وذكر -صلى الله عليه وسلم- الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومَطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! رواه مسلم.
وإن من أراد الوصول إلى درجة الورع فلا بد له من التورع عن كثير من المباح؛ إبقاء على صيانة النفس، وخوفا عليها أن يتكدر صفوها، ويطفأ نورها، فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة، ويذهب بهجتها، يقول ابن القيم -رحمه الله-: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية في شيء من المباح: "هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة". فهناك أمور كثيرة مباحة، ولكن لا تتناسب مع صاحب الهمة العالية، ولا تتفق مع ذوي النفوس السامية.
وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الناس فقال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان". قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد" صحيح ابن ماجة.
وإن المؤمن حينما يبتعد عن طرق الحرام، ومواطن الشبهات، ويترك كثيرا من الأمور لله -جل وعلا-؛ وخوفا من عواقبها، فإن الله تعالى يفتح له آفاقا من الخير، وآمادا من العطاء، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لن تدع شيئا لله -عز وجل- إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه" رواه أحمد.
ويقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحا من الحلال.
ويقول الشافعي -رحمه الله-: زينة العلم الورع والحلم. وقال طاووس -رحمه الله-: مَثَلُ الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له. وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: عليك بالورع! يخفف الله حسابك؛ ودَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشكَّ باليقين يسلمْ لك دينك. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جلساء الله غدا أهلُ الورع والزهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق