قدِم عمرُ إِلى
الشّامِ، وَأَشْرَفَ عَلى فلسطينَ، بحدائِقِها الغَنّاءِ، وجداوِلِها المنسابَةِ،
وثمارِها اليانِعَةِ، وبساتينِها الرّائعةِ، يترنَّمُ بقولِهِ تَعالَى: (كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ
كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)
[الدخان:25-29].
وتضوَّعَتِ الشّامُ
بأريجِ عمرَ ومسيرِهِ وحديثِهِ ومواقفِهِ، ونقشَ على جبينِ فلسطينَ كلمةً مِنْ
أبدعِ كلماتِهِ، ومقولةً مِنْ أمتعِ مقولاتِهِ، هَكذا أرادَ اللهُ لِهَذا
المُلْهَمِ المُحَدَّثِ أَنْ يهتفَ بتلكَ الأحرفِ النُّورانيَّةِ، على صعيدِ
فلسطين الَّتي سيكونُ عليها مسرحُ الأحداثِ مَعَ المُسلمينَ وأعدائِهِمْ على مَرِّ
البشريَّة.
فلتقفْ الأجيالُ على
هذهِ الكلمةِ حِيْنما يُمِضُّها الصِّراعُ، ويُضْنِيْها النِّزاعُ، ويتكالبُ عليها
الأعداءُ، ويمكرُ بها الألِدّاءُ، وهِيَ قَولُهُ: "إِنَّكُم كُنْتُمْ أذلَّ
النّاسِ، وأحقرَ النّاسِ، وأقلَّ النّاسِ، فأعزَّكُمُ اللهُ بالإِسْلامِ؛ فمهما
تطلبوا العزَّ بغيرِهِ يُذِلَّكُمُ اللهُ"؛ إذْ يستحيلُ أَنْ يجتنيَ
العِزَّة، أو ينالَ الكَرامةَ من ذهبَ يبحثُ عَنْها في "كامب ديفيد"، أو
يتلمَّسُها في أمريكا، أو يفتِّشُ عَنْها في معاهداتِ التَّسويةِ، أو يُؤَمِّلُها
في القُبُلاتِ الحارَّةِ، والعِناقِ المُتَهالكِ، والطبطباتِ الحانيةِ على أكتافِ
"باراك" أو "شارون" أو "نتنياهو" أو غيرِهِمْ مِنْ
سلسلةَ النَّتَنِ، ورؤوسِ العَفَنِ.
ولَنْ يظفرَ بوسامِ
العزَّةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ سيتقلَّدُهُ في معاهداتِ السَّلامِ، واتِّفاقيّاتِ
الوفاقِ، ومؤامراتِ التَّطْبيعِ؛ لا يمكنُ أَنْ يكونَ ذلكَ بحالٍ مِنَ الأحوالِ،
ولَنْ ينال العِزَّةَ ذَليلٌ، ولن يفوزَ بالكرامةِ هزيلٌ، ولن يحقِّقَ النُّصْرَةَ
عميلٌ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ) [المجادلة:20].
اللهُ -عزَّ وجلَّ-
حكمَ بالنُّصْرَةِ لأوليائِهِ، وبالعزَّةِ لأصفيائِهِ، وبالكرامةِ لأتباعِ
أنبيائِه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
كتبَ عمرُ معاهدةً للسِّلْمِ ووثيقةً للصُّلْحِ
بينَهُ وبينَ الرُّوْمِ هَذا نَصُّها: (بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ. هذا ما
أَعْطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المُؤْمنينَ أهلَ إيْلِياءَ مِنَ الأمانِ، أعطاهُمْ
أمانًا لأنفسهِمْ، وأموالِهِمْ، ولكنائسِهِمْ، وصُلْبانِهِمْ، وسقيمِها، وبريئِها،
وسائرِ مِلَّتِها، أَنَّهُ لا تُسْكَنُ كنائسُهُمْ، ولا تُهْدَمُ ولا يُنْتَقَصُ
مِنْها، ولا مِنْ خَيرِها، ولا مِنْ صَليبِهِمْ، ولا مِنْ شيءٍ من أمْوالِهِمْ،
ولا يُكْرَهُونَ على دينِهِمْ، ولا يُضارَّ أحدٌ منهُمْ، ولا يَسْكُنُ بإِيْلِياءَ
معهُمْ أحدٌ مِنَ اليَهُودِ.
وعَلى أهلِ إِيْلِياءَ
أَنْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ كَما يُعْطي أهلُ المَدائنِ، وعليهمْ أَنْ يُخْرِجُوا
مِنْها الرُّومَ واللُّصوصَ، فَمَنْ خَرجَ مِنْهُمْ فإِنَّهُ آمِنٌ على نفسِهِ
ومالِهِ حتّى يبلغُوا مأمنهُمْ، ومَنْ أقامَ منهُمْ فَهُوَ آمِنٌ، ولَهُ مِثْلُ ما
على أهل إِيْلِياءَ مِنَ الجِزْيةِ... وعَلى ما في هَذا الكتابِ عَهْدُ الله،
وذِمَّةُ رسولِهِ، وذِمَّةُ الخلفاءِ، وذِمَّةُ المؤمنينَ، إذا أُعْطُوا الَّذي
عليهِمْ مِنَ الجِزْيَةِ.
شَهِدَ عَلى ذلكَ
خالدُ بنُ الوليدِ، وعمرُو بنُ العاصِ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ، ومعاويةُ بنُ
أبي سفيانَ، وكتبَ وحضر سنةَ 15ه).
ثُمَّ تسلَّمَ عمرُ
مفاتيحَ بيتِ المقدسِ، وبينما الرُّومُ مَعْ عمرَ أدركَتْهُمْ الصَّلاةُ وهُمْ في
كنيسةِ القيامةِ، فطلبَ البِطْرِيْقُ مِنْ عُمرَ أَنْ يُصلِّي فيها، فاعتذرَ إليهِ
عمرُ قائلًا لَهُ بأنَّهُ لَوْ صَلّى في كنيستِهِم لَتَبِعَهُ المسلمونُ على ذلكَ،
وحَرَصُوا على الصَّلاةِ فِي المَكانِ الَّذِي صَلَّى فيهِ عُمرُ، فَإذا فَعَلُوا
ذلكَ هُدِّمَتْ الكنيسةُ، وأُخْرِجَ النَّصارى مِنْها، ونُكِثَ عَهْدُ الأمانِ.
وهَكذا دَلَفَ عمرُ
إلى بيتِ المقدسِ بجيشٍ روحُهُ الإيمانُ، وعنوانُهُ الجهادُ، وقصدُهُ الجنَّةُ،
وهدفُهُ الشَّهادةُ، وهُتافُهُ التكبيرُ؛ جيشٌ تَزَيَّنَ بكبارِ الصَّحابةِ،
وعُظَماءِ المِلَّةِ، ونُجَباءِ الشَّرِيعةِ؛ ارتجَّتْ فلسطينُ بالتَّكبيرِ،
وتضمَّخَ الأُفُقُ بالتَّهليلِ، وتغنَّتْ الأرجاءُ بالتَّسْبيحِ، الأوراقُ ترقصُ
على أشجارِها طربًا، والبلابلُ تشدُو بألحانِها فرحًا، وأحجارُ بيتِ المقدسِ تكادُ
تنطقُ مِنَ السُّرورِ، وزواياها تكادُ تَهْتِفُ مِنَ السُّلْوانِ، وصخورُها تكادُ
تهبطُ مِنْ خشيةِ الله، أو تتفجَّرُ مِنْها الأَنْهارُ، أو تتشقَّقُ فيخرجُ مِنْها
الماءُ، ليغسلَ أَدْرانَ الوثنيَّةِ، وأنجاسَ اليهوديَّةِ، وأوساخَ
النَّصْرانِيَّةِ؛ تكادُ الجبالُ أَنْ تَؤوِّبَ، والطُّيورُ أَنْ تُسبِّحَ،
والأشجارِ أَنْ تُغنِّي، والأرضُ أَنْ تُقبِّلَ الأقدامَ الَّتي تَمْشِي عَلَيْها.
لَقَدْ سَئِمَتْ هَذهِ
الأرضُ أقدامَ الكفرِ، وخُطُواتِ الفُجُورِ، فاستفاقَتْ عَلى أَرْجُلٍ طاهِرَةٍ،
تتوضَّأُ كلَّ يومٍ خمسَ مرّاتٍ، وأَنِسَتْ بأقدامٍ مؤمنةٍ تفطَّرَتْ مِنْ قيامِها
لرَبِّ الأرضِ والسماواتِ.
يا اللهُ! يا اللهُ!
ما أعظمَهُ مِنْ سرورٍ عمَّ الأرجاء في ذلكَ اليومِ! تصوَّرْ أَنَّ هنالكَ آلاتِ
تصويرٍ صوّرَتْ ذلكَ اليومَ العظيمَ، والفتحَ الكريمَ! عمرُ بثوبِهِ المرقَّعِ،
وخدَّيْهِ الضّامرينَ مِنَ البُكاءِ، عينُهُ تدمعُ، وقلبُهُ يرجُفُ، وفؤادُهُ
يهتفُ؛ وخالدُ بنُ الوليدِ، وأبو عبيدةَ، وعظماءُ الصَّحابةِ عَنْ يَمينِهِ
ويسارِهِ؛ والجيوشُ الموحِّدَةُ المؤمنةُ خلفَهُمْ ترفعُ الرّاياتِ، وترتِّلُ
الآياتِ، وتنيرُ الطُّرُقاتِ، هذا يومٌ لمْ يمضِ على فلسطينَ مثلُهُ، ولَمْ تعرِفِ
القُدْسُ أجملَ منهُ حُلَّةً، ولا أبهى منهُ طلعةً.
دخلَتْ القلوبُ
المؤمنةُ القدسَ، وتراصَّتْ الأقدامُ المجاهدةُ لِتصلِّيَ في القدسِ، واتَّجهَتْ
الأنفسُ الموحِّدةُ إلى الكعبةِ المشرَّفةِ بمكةَ المكرمةِ لتُقيمَ الصَّلاةَ في
القدسِ.
تقدَّمَ عمرُ بنُ
الخَطّابِ لِيُصَلِّيَ بالنّاسِ، فاستجمَعَ قواهُ، وتحاملَ على نفسِهِ، وقامَ في
محرابِ داودَ -عليه السلام-، فكانَ غايةً في الفِقْهِ والفِطْنَةِ والذَّكاءِ؛ إذْ
قرأَ في الرَّكْعةِ الأُولى سورةَ (ص).
ولماذا سورةُ (ص) يا
عمرُ؟ سورةٌ فيها مواعظُ بليغةٌ، ودروسٌ عظيمةٌ، سورةُ (ص) فِيْها قولُهُ تَعالى:
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
* كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ
مَنَاصٍ) [ص:1-3].
سورة (ص) فيها قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ *
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) [ص:10-14].
سورةُ (ص) فِيْها
الحديثُ عن داودَ -عليه السلام- وعَنْ توبتِهِ، وقَدْ سَجَدَ عمرُ سجدةَ داودَ
لِيُعْلِنَ الاتِّباعَ الأمثلَ، والاقتداءَ الأكملَ، والمنهاجَ الأجملَ. سورة (ص)
فيها قوله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26].
سورة (ص) فيها قوله
تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:28-29].
سورةُ (ص) فِيْها
قِصَّةُ سليمانَ -عليه السلام-، وقِصَّةُ أيوبَ، وفِيْها الحَدِيثُ الجَذّابُ عَنِ
الجَنَّةِ، والوعيدُ المخيفُ لأهلِ النّارِ، إِلى غَيرِ ذٰلِكَ مِنَ المَعانِي
الفائِقَةِ، والحِكَمِ الرّائقَةِ في سورةِ (ص).
ثُمَّ قَرَأَ في
الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ بسورةِ الإِسْراءِ، ذاتِ المطلعِ الأَخّاذِ، الَّذي
يَهُزُّ النُّفوسَ، ويُحْيي الضّمائِرَ، ويُطربُ الأفْئِدةَ، وينسابُ إلى أرواحِ المؤمنينَ
كالنَّسيمِ العَليلِ، وكالماءِ البارِدِ على الظمأ :(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء:1-3].
يا لَها مِنْ صلاةٍ
خاشعةٍ، وموعظةٍ جامعةٍ، وكلماتٍ رائعةٍ، ولحظاتٍ ماتعةٍ، بعدَ هذا المشهدِ
الرَّوْحانيِّ العميقِ، والمظهرِ الإيمانيِّ الأنيقِ؛ سألَ عمرُ عَنْ مكانِ
الصَّخْرةِ الَّتي أُسرِيَ بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْها، والصخرةُ قَدِ
اختفَتْ معالِمُها، وتلاشَتْ آثارُها؛ لأنَّ النَّصارى اتَّخذوها مكانًا لإلقاءِ
الأوساخِ والقُمامةِ، يغيظونَ بذلكَ اليهودَ؛ لأنَّ الصخرةَ كانَت قبلةً لَهُمْ،
فجعلَها النَّصارى مكانًا للقُمامةِ ردًّا عليهِمْ، حيثُ جعلَ اليهودُ مكانَ
صَلْبِ المسيحِ -كما يتوهَّمُونَ- مكانًا لإلقاءِ القُمامَةِ والأوساخِ -وهِيَ
الَّتي عُرِفَتْ فيما بعدُ بكنيسةِ (القيامة)- فخلعَ عُمرُ رداءَهُ وألقاهُ على
الأرضِ، وبدأَ يكنِّسُ القمامةَ والأوساخَ الَّتي على الصخرةِ ويجمعُها في
ردائِهِ، وقَدْ تغبَّر وجهُهُ، وتعفَّرَتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قام بتنظيفِها
وتطهيرِها يعاونُهُ الصَّحابةُ -رضوانُ الله عليهِمْ- في ذلكَ.
ثُمَّ أمرَ ببناءِ
المسجدِ الَّذي أصبحَ يَشْرُفُ بنفحاتِ القرآنِ الحانيةِ تتردَّدُ في أرجائِهِ
لِيَعُمَّ عِطْرُها وعَبَقُها ربوعَ الشّامِ كِلِّها.
وظلَّ عمرُ في القدسِ
بضعةَ أيّامٍ حتّى اطمأَنَّ على أحوالِ المسلمينَ، وأمورِ المجاهدينَ، ثُمَّ قبلَ
أَنْ يغادرَها قامَ فيهِمْ خطيبًا، فكانَ مِمّا قال: «يا أهلَ الإِسلامِ، إِنَّ
اللهَ تَعالى قَدْ صَدَقَكُمْ الوعدَ، ونصرَكُم على الأعداءِ، وأورثَكُمْ البلادَ،
ومَكَّنَ لَكُمْ في الأرضِ، فلا يَكُنْ جزاؤُهُ منكُمْ إلّا الشُّكْرَ.
وإِيّاكُمْ والعملَ
بالمَعاصي! فإنَّ العملَ بالمَعاصي كفرٌ بالنِّعَمِ، وقلَّما كَفَرَ قومٌ بِما
أنعمَ اللهُ عليهِمْ، ثُمَّ لَمْ يفرُّوا إلى التَّوْبَةِ، إلّا سُلِبُوا
عِزَّهُمْ، وسَلَّطَ اللهُ عليهِمْ عدُوَّهم".
وهَكذا يختمُ عمرُ
جولَتَهُ للقدسِ بِمِثْلِ ما بَدأَ بِهِ مِنَ الوَصِيَّةِ بِالإسلامِ، والاهتمامِ
بالدِّينِ، وأنَّ ذلكَ مصدرُ العِزَّةِ، وأساسُ الكرامةِ، وعنوانُ الفلاحِ، وطريقُ
النَّجاحِ.
وهَكذا ظلَّت القُدسُ
عَلى أمنِها وإيمانِها، وحُسْنِها وإحسانِها، وصلاتِها وأذانِها، حتّى تفرَّق
المسلمونَ، وضُعُفَ دينهُمْ، وتمزَّقَ جمعُهُمْ، وتنافرَتْ قلوبُهُمْ، وتنازعَتْ
صفوفُهُمْ، وأَخْلَدُوا إلى الأرضِ، وشُغِلُوا بالملذّات، وتنافسُوا في
الشَّهواتِ، واقتتلُوا على الزَّعاماتِ، فَسُلِّطَ عليهِمْ الأعداءُ، وسلبوهُمْ
عِزَّهُمْ، وامتهنُوا حرماتِهِمْ، ودنَّسُوا مقدَّساتِهِمْ، وأَراقُوا
دِمَاءَهُمْ، وذلكَ بِما كَسَبَتْ أيديهِمْ، ويَعفُو عَنْ كثيرٍ.
وَلَنا وِقْفاتٌ
أُخْرى مِنَ الصِّراعِ المريرِ بينَ الأَسْرِ والتَّحْرير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق