هذه خواطر عابرة،
وفوائد عابقة، تبدو لنا في نَصٍّ بيانيٍّ ساحر، وتوجيهٍ نبويٍّ آسِرٍ من جوامع
كلمه -صلى الله عليه وسلم-؛ إنه من الموجز المعجز، إنه من دلائل نبوبته -صلى الله
عليه وسلم-، ومن روائع بلاغته، وعظمة منطقه؛ كلمات سلسه، وألفاظ عذبه، وعبارات
منسابة، ومعان جذابة.
وَكَلَامُهُ السِّحْرُ
الحَلالُ وإِنَّهُ *** لَمْ يَجْنِ قَتْلَ المسْلِمِ المتَحَرِّزِ
إنْ طالَ لم يُمْلَلْ
وَإنْ أَوجَزْتَه *** وَدَّ المحَدِّثُ أَنَّهُ لمْ يوجِزِ
عن النعمان بن بشير
-رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ
الحلالَ بَيِّنٌ، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبِهاتٌ لا يعلمهن كثير من
الناس، فمن اتقىٰ الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،
كالراعي يرعى حول الحمىٰ يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمىٰ، ألا وإن حمىٰ
الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد
كله، ألا وهي القلب" متفق عليه.
أول ما يبهرك في هذا
الحديث عذوبة كلماته, وروعة ألفاظه, ودقة اختيارها, ولو أردنا أن نوفي هذا الحديث
حقه لوقعنا مع كل كلمة منه على حدة, إنه حديث فيه من الروعة والجمال والإيجاز
والإعجاز ما لا حد له، وأدعوك إلى قراءته أكثر من مرة، والوقوف مع كل كلمة، لترى
الروعة، وتجد المتعة.
هذا الحديث اعتبره
العلماء يمثل ثلث الدين، وهو كذلك، يقول الإمام أحمد: أصول الإسلام علىٰ ثلاثة
أحاديث: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "من أحدث في أمرنا
ما ليس منه فهو رد"، وحديث: "الحلال بيّن"؛ فهذا الحديث في السنة
كسورة الإخلاص في القرآن.
الحلال بيّن: بدأ به
لأنه الأصل؛ فالأصل في كل شيء الحل حتىٰ تثبت حرمته. ولو تأملت في النعم لوجدتها
حلالاً إلا ما ندر، وهذا النادر لم يحرَّم إلا لأن فيه ضرراً علىٰ الإنسان في
حياته أو دينه أو عقله.
اذهب إلىٰ أكبر مركز
من مراكز التسويق، ثم تأمل ما الحرام فيه؟ ستجدها أشياء معدودة جداً قد لا تتجاوز
أصابع اليد الواحدة؛ أما ما عدا ذلك من نِعَمٍ في المأكَلِ والمشرب والملبس فهي
حلال؛ إذ ليس في ديننا حرج أو مشقة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف:32].
بيِّن: البيان بمعنىٰ
الوضوح، فهو بَيِّن لأن الله تعالىٰ بيَّنَه، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل:89]، وقال تعالىٰ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة:115].
وهو بَيِّنٌ لأن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيَّنَهُ للناس، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
[النحل:44]، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تركتُكُم علىٰ البيضاء ليلها
كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني في
الصحيحة.
ثم إن كل ما أحله الله
-عز وجل- للناس تجده قريبا من النفوس السوية، والفِطَر السليمة، بخلاف الإثم
والحرام؛ فإنه يتردد في الصدر، ويتلجلج في الفؤاد، ويكره المرء أن يطلع عليه
الناس.
والحرام بيِّن: الحرام
هو الممنوع، وهو كل ما نهىٰ الله تعالىٰ عنه في كتابه أو علىٰ لسان نبيه -صلى الله
عليه وسلم-، قال تعالىٰ: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)
[الأنعام:119].
وبينهما أمور مشتبهات:
أمور تجمع كل شيء من قول أو فعل، أو أكل أو شرب، أو بيع أو شراء، أو ما عدا ذلك.
مشتبهات: المشتبه هو
الأمر الذي لم يظهر للإنسان علىٰ حقيقته، ولم يتبين له فيه الصوابُ أو الحِلُّ
والحرمة.
لا يعلمهن كثير من
الناس: ولكن هنالك من يعلمها، فإن من توفيق الله تعالىٰ وفضله علىٰ هذه الأمة أنه
لا يزال فيها من العلماء الربانيين من يعلمون مراد الله، ويبصرون عباد الله بما
وهبهم الله من علم، وآتاهم من حكمة.
فمن اتقىٰ الشبهات:
اتقىٰ؛ تثير في النفس معنىٰ المراقبة لله -عز وجل-، واستحضار هيبته، واليقين
بعلمه، وأنه يعلم الجهر وما يخفىٰ، وأنه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ
إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى
مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
التقوىٰ تذكر في
القرآن في أكثر من مائتين وستين موضعاً؛ والجنان أعدت للمتقين, قال تعالى: (إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا *
وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً
مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) [النبأ:31-36]، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
عمر -رضي الله عنه-
حينما سأل أُبيّ بن كعب عن التقوىٰ، قال له: هل سرت في طريق ذي شوك؟ قال عمر: نعم.
قال: فماذا فعلت؟ قال: شمَّرتُ واجتهدت. قال أُبَيّ: فتلك هي التقوىٰ.
إذاً فاتقاء الشبهات
يحتاج إلىٰ صبر ومعاناة ورَوِيَّة، وتحسَّب لكل خطوة أو قول أو فعل.
فقد استبرأ لدينه
وعرضه: طلب البراءة والنزاهة لدينه، وهو الأساس والأهم، ولعرضه: وهو في المرتبة
الثانية، فإن المؤمن لا يجوز له أن يعرض عرضه لحديث الناس بما يثيره من الشكوك
حوله.
قد يستبرئ الإنسان
للدين، ولكنه لا يهتم للعرض، وهذا خطأ! فقد يقول في نفسه: طالما أنني أعرف نفسي،
وأنني لم أرتكب المحرم، فلا عليَّ من كلام الناس، فيجلس في أماكن مشبوهة، أو يخالط
أناسا مشبوهين، أو يأتي بتصرفات مشبوهة دون اهتمام لكلام الناس، وهذا منهج خاطىٰء.
إن المسلم إذا ظل طيب
السيرة، حسن السمعة، جميل الذكر، فذلك أقوىٰ لوجوده، وأجمل لمنهاجه، وأسرع لقبول
دعوته في الناس، فمن ارتكب الشبهات فقد عرض نفسه للتهم والقدح والطعن، يقول بعض
السلف: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن.
ومن وقع في الشبهات
وقع في الحرام: الوقوع في الشبهات تيسير وتسهيل للوقوع في الحرام، وفي بعض روايات
الحديث: "ومن اجترأ علىٰ ما شك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان"،
وهذه نتيجة حتمية؛ فكل من وقع في الشبهات سيقع في الحرام لا محالة، وتعبيرات النبي
-صلى الله عليه وسلم- دقيقة ومنتقاة، فلم يقل فمن أتىٰ شبهة أو فمن عرض لشبهة؛ لأن
هذا أمره أهون، ولكن المشكلة فيمن هو واقع في الشبهات، مُتَرَدٍّ فيها، متلبس بها.
لقد كان النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام علىٰ غاية الحذر والمراقبة والورع، يقول -صلى الله
عليه وسلم-: "إني لأنقلب إلىٰ أهلي فأجد التمرة ساقطة علىٰ فراشي فأرفعها
لآكلها، ثم أخشىٰ أن تكون صدقة فألقيها" متفق عليه.
وروي أنه -صلى الله
عليه وسلم- أصابه أرق في ليلة من الليالي فقالت له بعض نسائه: يا رسول الله! أرقت
البارحة، فقال: "إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر
الصدقة فخشيت أن تكون منه" أخرجه أحمد وقال الهيثمي: رجاله موثوقون.
انظر إلىٰ هذه
المراقبة الحقة، والورع الصادق، ثم انظر إلىٰ حال كثير من الناس اليوم وانهماكهم
في الشبهات دون تهَيُّبٍ أو تخوُّف، يترك -صلى الله عليه وسلم- التمرة مع أنه قد
يكون بأمس الحاجة إليها من شدة الجوع ولوعته، فقد كان يمر الشهر والشهران ولا يوقد
في بيته النار، وهنالك أناس أُتخمت بطونهم، وتضخمت أرصدتهم، وهم مع ذلك لا يترددون
في التهام ما يبدو أمامهم دون تبصُّرٍ لأمرِ حِلِّه وحرمتِه؛ سئل الإمام أحمد عن
الثمرة يلقيها الطير، فقال: "لا يأكلها، ولا يأخذها ولا يتعرض لها".
وبعد بيان هذا المعنىٰ
العظيم, يقف -صلى الله عليه وسلم- ليعطي صورة جميلة، ويرسم لوحة هائمة، هذه
استراحة قبل نهاية الحديث، استراحة مع الطبيعة الآسرة، وهكذا كانت أحاديثه -صلى
الله عليه وسلم- يراعي فيها هذا الجانب الجمالي التصويري الرائع؛ فأنت تجد لكلامه
-إضافة إلىٰ المعنىٰ الجليل- مبناً جميلاً، فتظفر بفائدة دينية، ومتعة فنية.
كالراعي يرعىٰ حول
الحِمىٰ يوشك أن يقع فيه: أكثر من يستمتع بهذه الصورة من عرفها علىٰ الطبيعة،
وأكثر ما يكون ذلك في القرىٰ وفي البادية، حيث يكون هناك بعض أودية أو جبال أو
أراض تُحمَىٰ ويمنع الرعي فيها أو الاعتلاف منها لمصلحة معينة لشخص أو قبيلة أو
قرية، وتسمىٰ: الحمىٰ؛ ومَن وقع في هذه الحِمىٰ في فترة المنع فإنه يعاقب ويعزر،
فيأتي بعض الرعاة بماشيتهم يرعون حول هذا الحمىٰ.
والأغنام حينما ترىٰ
خضرة المرعىٰ تهرع إليه، وتنقض عليه، ومهما كان حزم الراعي وحرصه فإنهن يتفلتن من
يده ويقعن في الحِمىٰ، وقد كان بوسعه أن يسرح بها في أرض الله الواسعة خير له من
هذا العناء والتوتر والمجازفة!.
وهكذا النفس إذا
اقتربت من مواطن الشهوات ومراتع المغريات فإنه يستهويها البريق, والأَولى أن يبتعد
بها عن مواطن الخلل وأماكن الزلل؛ لكي لا يستنزلها المظهر فتودي بصاحبها.
ألا وإن ولكل ملك
حمىٰ: ماذا تفيد هذه العبارة، وما هو القصد منها؟ إنها وقفة رائعة وإشارة ملفتة
لكل إنسان، وكأنها تبث في قلب المرء موعظة بليغة معناها: أيها المرء، كما أنه لكل
ملك من ملوك الدنيا حِمىٰ لا يجرؤ أحد علىٰ القرب منه فضلا عن انتهاكه أو الوقوع
فيه، فإن أجَلَّ مَن يجب أن يخاف منه، وأعظم من يجب احترام محارمه، هو ملك الملوك
-جل وعلا-؛ فإن له حِمىٰ ممنوعاً محظوراً، وهو محارمه -جل وعلا-.
وقد حذر -سبحانه- في كتابه
الكريم من الاقتراب من محارمه، أو انتهاك حدوده، فقال تعالىٰ: (تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة:187]، وقال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
[البقرة:229]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار،
وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه" متفق عليه.
إن من صفات المتقين،
وسمات المؤمنين، أنهم أحرص الناس علىٰ البعد عن النيل من حدود رب العالمين، إنهم
يحفظون حدوده، ويجتنبون محارمه، ويبجلون حماه، بل ويجعلون بينهم وبين الحرام
سياجاً كبيراً من الحلال خشية الاقتراب من الحرام، يقول أحدهم: ما زالت التقوىٰ
بالمتقين حتىٰ تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. وقال الآخر: إني لأحب أن أدع
بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال الآخر: لا يسلم للرجل الحلال
حتىٰ يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال.
وبعد هذا البيان، وهذا
المثال التقريبي، وهذا الشرح الجميل، فإن المعول كله علىٰ أمر هام، إذا صلح صلح كل
شيء، وإذا فسد فسد كل شيء، فلا تنفع موعظة، ولا تجدي نصيحة، ولا تؤثر خطبة إذا لم
يكن صالحاً، ولربه خاشعا، وهو القلب، فإذا صلح فهو الآمر والناهي، والرادع عن كل
خلل، والمانع من كل زلل.
إن القلوب إذا زكت،
زكت الجوارح، وحسنت الأعمال، لأن القلب ملك الجوارح، فهي تعمل بأمره، وتمضي
بتوجيهه؛ وحينما صفت قلوب الصالحين أصبحت عامرة بخوف الله، مراقبة لجلال الله؛
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي،
ولا مضيت علىٰ قدمي حتىٰ أنظر علىٰ طاعة أو علىٰ معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن
كانت معصية تأخرت.
ويقول أحد السلف: ما
خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله -عز وجل-. وقيل لداود الطائي، وقد كان جالسا
في الظل: لو تنحيت من الظل إلىٰ الشمس، فقال: هذه خطا لا أدري كيف تكتب. هؤلاء زكت
قلوبهم، وصلحت جوارحهم، فأثمرت أعمالاً طيبة، وأقوالاً مباركة، وسيراً حميدة.
ما شاء الله بارك الله فيك وفي مشروع السلام عليك أيها النبي
ردحذف