ها هي الإجازة
المنتظرة أقبلت، إجازة تنتظرها القلوب، وتهفو لها النفوس، وتقر لقربها الأرواح؛
إنها الأيام المرتقبة التي يكثر فيها الأنس، ويزداد المرح، وتحلو الأسفار، وتغرد
الأفراح، وتنتشي الليالي المِلاح.
ولقد تعود الناس أن
هذه الإجازة هي الميدان الأجمل للأفراح، والفرصة الأطيب للأعراس، فكم من فتى قد
نفد صبره، وزاد شوقه، وطال ترقبه؛ لأن فرحة عمره في يوم من أيام هذه الإجازة؛ وكم
من فتاة خفق قلبها، ورقص وجدانها لهذا الموعد، فهي منذ أشهر بعيدة تهيء نفسها،
وتتأمل مرآتها، وتحيك ملابسها، وتصلح من شأنها كله، لتكون وردة فواحة، تعطر بيت
الزوجية، وتتراقص فيه كالفراشة الهائمة؛ وكم من أب وأم اجتمعت في فؤادهما مشاعر
مختلَطة من الفرح الكبير برؤية من يحبونه، وقد اعتلا منصة الأفراح، ومن الحزن على
فترة قادمة سيغادرهم فيها الحبيب أو الحبيبة إلى أحضان حبيب آخر، مشاعر من الأنس
بليلة سعيدة هائمة، ومشاعر من الخوف من فجائع الدهر، ومنغِّصات الأفراح، أو تكاليف
تبعات الزواج. إننا مقبلون على موسم أعراس حافل، حيث تزغرد نغمات المسرة على بيوت
كثيرة.
إن الزواج من أعظم
النِّعم الربانية، والمنن الإلهية، التي امتن الله تعالى بها على عباده، ودل بها
على فضله، وأخبر أنها آية من آياته الساطعة، لأناس يتفكرون، وقوم يعقلون؛ وهي
والله كذلك! فلو تأمل الإنسان سُنة الزواج، وحقيقة اللقاء، وأسرار الوصال، لرأى
العجب العجاب، اسرح بخيالك، حلق بوجدانك في سماء هذه السنة البديعة، تأمل ميول
الجنسين بعضهما إلى بعض، تأمل المشاعر، تأمل الخواطر، تأمل الأحاسيس، تأمل الزواج،
تأمل المودة، تأمل الحب وخلجاتـه، والشوق وآهـاته، تأمل الرحمــة والسكن، تفكر في
الحمل، في الولادة، في الرضاع، في الأبناء، في العاطفة، في الأمومة، في الأبوة، في
الأسرة، في العلاقة. عالَمٌ عجيب! ميدان غريب! نبأ عظيم!.
إنها أسرار وأخبار لا
يحيط بها بيان، ولا يرسمها بنان، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ قال تعالى: (هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا) [الأعراف: ١٨٩]، وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
والناس يعرفون مشاعرهم
تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين؛ ولكنهم قلَّما
يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجاً، وأودعت نفوسهم هذه العواطف
والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكناً للنفس، وراحة للجسم والقلب، واستقراراً للحياة
والمعاش، وأنساً للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء!
وإن الزواج شريعة
ربانية، وفطرة إنسانية، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ
وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) [الرعد:٣٨].
ولقد بدأت تلك الشريعة
بآدم -عليه السلام-، وعاش حياته راغدة في كنف حواء ودفئها وسكنها، وهكذا الأنبياء
–عليهم السلام-، هذا داود كان له تسع وتسعون زوجة، وذاك سليمان -عليه السلام- وقصة
ملكة المجد والجمال، وذاك إبراهيم -عليه السلام- وزواجه بسارة ثم هاجر، وذاك موسى
عليه السلام الذي تزوج بتلك الفتاة المؤمنة الحبيبة العفيفة، وهي التي جاءته على
استحياء، فتحمَّل ليظفر بها مهراً كبيراً، إنها عشر سنوات من التعب والمشقة ورعاية
الغنم، (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى
أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) [القصص:٢٧]، وهكذا الأنبياء -عليهم السلام-، وقصصهم، وأخبارهم
الزوجية، تملأ الزمان والمكان.
وبيَّن تعالى أن من
صفات عباد الرحمن أنهم يسألون الله تعالى أن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم ما تقر
به أعينهم، وتلذ به حياتهم، وتطيب معه معيشتهن، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:٧٤]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-:
"...وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري؛ ويحث على
ذلك ويدعو إليه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" أخرجه
البخاري.
ويقول عبد الله بن
عباس -رضي الله عنهما-: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وقال ابن مسعود -رضي الله
عنه-: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج؛ لكي لا ألقى الله عزبا.
إن من الأمور التي
ييسرها الله للمسلم، ويعينه عليها، ويسهل له سبيلها، ويرزقه بأسبابها؛ الزواج،
يقول تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:٣٢]. ويقول تعالى آمراً ومبشراً لذوي العفة
والطهر والفضيلة: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:٣٣].
ويقول -صلى الله عليه
وسلم-: "ثلاث كلهم حق على الله عونهم؛ المجاهد في سبيل الله، والناكح
المستعفف، والمكاتب يريد الأداء" أخرجه أحمد وحسنه الترمذي. ويقول -صلى الله
عليه وسلم-: "ومن يستعفف يعفه الله" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. ويقول -صلى الله عليه وسلم-:
"من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتق الله في النصف الباقي" أخرجه الطبراني
في الأوسط وحسنه الألباني في الصحيحة.
إن العفاف رفعة للمرء
في الدنيا والآخرة، ولذلك كان جزاء من خاف ربه واتقاه، وحفِظَ نفسه من الوقوع في
الحرام، والاندفاع وراء الشهوة، أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ ولقد
أثنى الله تعالى على المؤمنين وامتدحهم، وبيَّن أن من أجمل صفاتهم: (وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) [المعارج:٢٩]، وإن من أعظم طرق العفة هو الزواج
والاستمتاع بالحلال، فإن الدنيا، متاع وخير متاعها المرأة الصالحة.
إن الزواج نعمة ربانية
كبرى، إن الفتى أو الفتاة حينما يوفق أحدهما في زوج صالح، يكون بذلك قد ضمن لنفسه
-بإذن الله تعالى- الدين والسعادة، والسكن والرحمة، والعفة والطهارة، والهدوء
والطمأنينة، والتعاون والحب، والمودة والأبناء، والفرحة، وراحة البال، فهي نعمة
عظيمة جليلة، وتحمل في طياتها نعمًا كثيرة عظيمة، كل ذلك متى ما كان هذا الزواج
موفقًا مباركًا، مبنيًا على الهدى والتقى، والرضى والحب، والتعاون والتفاهم،
والصبر والإيثار، وتلمُّس كل أسباب السعادة.
وقد يكون هذا الزواج
نكدًا وتعبًا، وهمًا وضجرًا، وسهرًا وشقاءً وعناءً، وقطيعة وشحناء وبغضاء،
وطلاقًا، وفراقًا، أجارنا الله من ذلك، وإن على الإنسان أن يحرص على بذل كل سبب
يتلمس به رضوان الله، وعونه وتوفيقه، ورحماته التي ما إن لامست هذا الزواج فهو
الخير كله؛ ولذلك فإنك تعجب كل العجب من أناس يقدمون على أهم ليلة في أعمارهم
الليلة الجميلة الغالية الرائعة، الليلة التي يفطر فيها المحب بعد طول صيام، فإذا
بالروح تنادي بأن قد ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الحب والسعادة! الليلة التي
تكتمل فيها رجولة الرجل وأنوثة الأنثى، الليلة التي سوف تحدد مصير بقية العمر،
الليلة التي ينتظر من ورائها كل معاني الرضا والسكينة، ومشاعر الأبوة والأمومة،
وهمهات الأطفال، وضحكات الصغار، ومداعبات البراءة، تعجب كل العجب ممن يقدم على تلك
الليلة دون استشعار لروعتها وعظمتها، وأنها منة ربانية جليلة، دون الانطراح للواحد
الأحد، واللجوء إليه بالدعاء والرجاء، وسؤاله التوفيق والرضا والتقى، دون شكر له
تعالى على ما من به من آلاء لا تحصى بهذا الزواج، دون تدبر وتأمل في حكمته وعظمته،
دون نية حسنة صادقة ينويها بهذا الزواج من إرضاء ربه، واتباع السنة، وإعفاف النفس،
وتكثير المسلمين، وعمارة الكون.
بل الأعجب من كل ذلك
استقبال هذه النعمة الجليلة بأعمال تسخط الباري، وأفعال تغضب المنعم، وسلوكيات تستمطر
الغضب والسخط، وتنتزع خيوط الرحمة والتوفيق والرضا الرباني من هذا اللقاء! إننا
أصبحنا نرى في حفلات الزواج وفي ليالي الأفراح منكراتٍ ومخالفاتٍ وأخلاقياتٍ
مخجلة، لا يُقِرُّها دين، ولا يرتضيها شرع، ولا يصدقها عقل؛ فهل هذا هو شكر
النعمة؟ هل هذا هو تقدير المنعم، واحترام المنة، وجزاء الإحسان؟!.
لقد أصبحت كثير من
الحفلات مجالاً مفتوحًا لأخلاقيات مخجلة: البذخ، والتبذير، والمباهاة، والمغالاة،
والإسراف، والصخب، واللغط، والغناء الماجن، والرقص الفاحش، والعري الفاضح... إلى
غير ذلك من سيئات الأخلاق، وقبائح المعاصي. كيف يطمع في التوفيق والسعادة ورضوان
الباري مَن بدأ ليلته بمثل هذه الأمور؟ إنها نعمة، إنها مِنَّة، إنها عطية، إنها
هبة، إنها آية، إنها رباط مقدس، فليشرق صباحها بالدعاء والرجاء، والصلاة والذكر،
والصدقة، والنية الطيبة، وليتعطر مساؤها بالأفراح الراقية، والكلمات الزاكية، نفرح
ونطرب، ونحتفل، ونسعد ولكن في حدود ما أباحه الشرع، وسنة المختار، وارتضته النفوس
المؤمنة.
يا أيها الأب! اتق
الله في نفسك، وفي ليلة فرح ابنك أو ابنتك. يا أيتها الأم! اتقي الله في نفسك، وفي
ليلة فرح ابنك أو ابنتك. يا أيها الشاب! اتق الله في ليلة عمرك، وساعة فرحك،
واكتمال نعمة ربك عليك، وابدأها بالتقى والرضا والهدى، وما يرضي خالقك الذي أنعم
عليك -سبحانه تعالى-. يا أيتها الفتاة! اتقي الله في حفلة فرحك، فإنها انطلاقة
حياتك، إما إلى سعادة وإما إلى شقاء.
(يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا) [النساء:١].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق