يا لها من أيام مضت
صفت فيها القلوب، وزكت الأرواح، وأنِسَت الضمائر؛ أيام مرَّتْ كالنسيم العليل،
والماء الزلال، والشهد المذاب، عشنا فيها كما يعيش العاشق الولهان لحظات الوصال
الماتعة بعد طول غياب، وارتوينا من ينابيعها كما يرتوي الظمآن الذي ألهب الحر
فؤاده، وأنهك الظمأ روحه.
ومرت بنا كالحلم
الجميل، والطيف الهادئ، والظل الوارف؛ انغمسنا في نعيمها فكأنه لم يمر بنا شقاء
قط، ولا بؤس قط؛ أسكنَّاها في أرواحنا، غلغلناها في أعماقنا، فكأننا من نشوتنا
فيها نسينا أنفسنا.
كنا نشعر أننا
بُدِّلْنا قلوبا غير قلوبنا، وامتطينا أجساداً غير أجسادنا، وزُوِّدْنا بأرواح غير
أرواحنا، حيث تجدد عزمنا، وتألق شـوقنا، قويت هممنا، وصفت نفوسنا، وهذبت أخلاقنا،
وحسنت طاعتنا، وازدادت عبادتنا.
يَا ليالٍ عابقاتٍ
بالهوى *** همسُها الزَّاكي ضياءٌ للوفودِ
بينَ تسْبيحٍ وذِكْرٍ
خاشعٍ *** وصيامٍ وصلاةٍ وسُجودِ
وزكاةٍ وانتشاءٍ
كُلَّما *** رُتِّل القرآنُ بالصوتِ الفريدِ
أنهُرٌ بالخيرِ فاضَتْ
سَلْسَلاً *** بعَطاءِ الخالقِ البَرِّ الحميدِ
فَرْحَةٌ أُنْسٌ ثناءٌ
سَلْوَةٌ *** وارْتِواءٌ من مَسَرَّاتٍ وَجُودِ
يا له مِن فضْلِ رَبٍّ
سابِغٍ *** نحنُ منهُ كُلَّ يومٍ في مَزيدِ
يا إلهي جُدْ علينا
بالرِّضا *** والنَّدى والفوزِ في يومِ الوُرُودِ
إنها الفيوض الإلهية، والعطاءات الربانية التي حملها إلينا رمضان، وزفها شهر الصيام، فلله الحمد، وله الشكر، وهو أهل الثناء والمجد.
إنها الفيوض الإلهية، والعطاءات الربانية التي حملها إلينا رمضان، وزفها شهر الصيام، فلله الحمد، وله الشكر، وهو أهل الثناء والمجد.
ولذلك كله نختم تلك
الأيام الزاهية باحتفال مُقَدَّس، وابتهاج محبب، ومهرجان معظم، يُمَجَّدُ فيه المــُنْعِم،
ويُحْمَدُ فيه المتفضِّل، وتعلن فيه الفرحة؛ تُغرد له القلوب، وتشدو له الأرواح،
وتعلق فيه البشائر: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]، يومٌ يُتوج به الصيام،
ويختم به القيام، وتفتتح به أشهر الحج؛ يشرق يوم العيد، لينتشر الرضا، ويبسط
المنىٰ، ويُسعد السائرين.
فيا الله! ما أعظم جود
الله علينا! (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34]، وما أكثر عطاءه! وما أجزل كرمه! أكرمنا
بهذا الدين النقي الزكي الجلي السوي، لا حرج فيه ولا عنت، ولا إثقال ولا أغلال،
موافقاً للفِطَر، ميسراً للبشر، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء؛ دينا
قِيَماً مِلَّةَ إبراهيم حنيفا، أيسر من اليسر، وأسهل من السهل، وأجمل من المنىٰ.
عقيدة سهلة يسيرة،
توحد الباري، وتنزه الخالق، وتمجد العظيم، تقر بألوهيته، وتؤمن بربوبيته، وتصفه
بما وصف به نفسه. وشريعة سمحة، لا تحمل المرء ما لا يطيق، ولا تكلفه ما لا يستطيع،
ولا تحرمه اللذائذ، ولا تمنعه المتع، إلا ما فيه هلاكه، أو به ضلاله، (مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)
[المائدة:6].
مَن شهد أن لا إله إلا
الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتىٰ الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت إن
استطاع إليه سبيلا، كان من المفلحين، ونال رضوان رب العالمين؛ ثم لا يزال يرقى
بالنوافل بعد الفرائض حتىٰ يحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، ويده التي
يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إن سأله أعطاه، وإن دعاه أجابه.
سبحانه! ما أكرمه!
السيئة عنده بواحدة أو يمحوها، والحسنة بعشر أمثالها إلىٰ سبعمائة ضعف إلىٰ أضعاف
كثيرة.
له الحمد -جل وعلا- أن
أكرمنا بالدين، ومَنَّ علينا بالتوحيد، وجعلنا من المؤمنين؛ دين عظيم، ومنهاج
قويم، لو اجتمع أذكياء الدنيا، وعباقرة العالم، وأساطين الفكر، ورواد العلم، وحملة
المعرفة، ثم أعملوا قرائحهم، وشحذوا أذهانهم، واستنطقوا أفكارهم ما استطاعوا أن يظهروا
للعالم بمثل هذا النهج المتكامل، والدين المتوازن، والهدي المتوائم، الذي يجمع بين
الجسم والروح، والعقل والعاطفة، والدنيا والآخرة في نصاعة وجمال، وروعة وجلال،
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافَاً كَبِيرَاً)
[النساء:82]، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
هذا هو العيد, هذا هو
الفرح, هذا هو السرور والسلوان والمسرات والمباهج، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
[يونس:58].
إن العيد فرحة
للصُّوَّام, وسرور للقُوَّام, وانتشاء للعُبَّاد؛ اليوم يفرح الطائعون بطاعتهم،
والمتسابقون بفوزهم، إنه فرح يذكِّر بيوم الفرح الأكبر, والسرور الأكمل؛ يوم يسعد
المسلمون بلقاء ربهم, ورضوان خالقهم, فيفيض عليهم رضوانه, ويلبسهم غفرانه،
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس:38-39].
لا أكبر مِن الفرح
برضوان الله تعالى! ولا أكبر سروراً من الفوز بطاعته! ولا أكبر منه -جل وعلا-! فهو
الكبير المتَعال الذي عنت له الوجوه, وسجدت له الجباه, وخضعت له المُهَج, وخشعت
الجوارح، ولذلك كان شعارنا يوم العيد هو تكبيره جلا وعلا: الله أكبر الله أكبر
الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر الله أكبر الله أكبر, ولله الحمد. الله
أكبر كبيرا, والحمد لله كثيرا, وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا، (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].
هذا يوم عيدنا, وإن
العيد ليس انفلاتاً من المثل, ولا انطلاقاً للشهوات, أو تنصلاً من الطاعات, بل هو
فرح رباني, وسرور روحاني, يفتتح بالتكبير والتحميد والصدقة والصلاة.
إن العيد ليس قطعاً
للصلة بالله تعالى, أو نسياناً للقرآن, أو نهاية عهد بالمساجد والجماعات؛ وإن
انتهاء رمضان لا يعني انتهاء العبادة, أو التقهقر عن الطاعة, بل هو موسم للتزود من
الخير, وفرصة للنهل من الفضل؛ إنه يقوِّي الهمم, ويصفي النفوس, ويستحث العزائم,
ويعوِّد على الطاعة, ويرسخ الهداية، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17].
أيها المؤمنون: يقول
-صلى الله عليه وسلم-: مَن صام رمضان، ثم أتْبَعَهُ سِتاً من شوال، كان كصيام
الدهر". فأدركوا الغنيمة، واظفروا بالفرصة.
أيها الصائمون المصلون
المتصدقون الذاكرون الشاكرون القارئون: هذا يوم فرحكم, وعنوان سعادتكم, وبداية
أفراحكم.
أيها المقصرون
المفرطون المتكاسلون: فاتكم خير كبير, وأجر وفير, وغنائم جليلة, ولكن الفرصة
أمامكم، فبادروا بالتوبة, وأكثروا من الاستغفار, وتداركوا أنفسكم, فإن الله رحيم,
والمولى غفور, والرب عفو, يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل, فلا تقنطوا من رحمته, ولا تستيأسوا من روحه, فهو كريم حليم, عفو
غفور, يقبل التائبين, ويعفو عن المذنبين, ويقيل عثرات العاثرين.
يا إلَهي جُدْ عليْنا
بالرِّضا *** والنَّدى والفوزَ في يومِ الورودِ
واغْفر الزَّلَّاتِ
وارحم ضَعْفَنا *** يا إلهَ الكونِ يا ربَّ الوجودِ
واجْعَل الأفراحَ
دَوْمَاً حَظَّنا *** ثمَّ مأوانا لِجَنَّاتِ الخُلُودِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق