بعدَ البطولاتِ المظفَّرَةِ،
والفتوحاتِ المؤزَّرَةِ، الَّتي وقعَتْ على الأرضِ المباركةِ، يجدرُ بِنَا -قبلَ
أَنْ نُسْدِلَ السِّتَارَ على تلكَ الصَّفحاتِ المُشرقةِ- أَنْ نتوقَّفَ قليلًا
مَعْ بعضِ رموزِهَا، وأَنْ نَتلبَّثَ يسيرًا مَعْ بعضِ فرسانِهَا العُظَماءِ،
وأبطالِهَا النُّجبَاءِ.
إِنَّ هنالكَ أُناسًا
يقفُ التَّاريخُ أمامَهم مبهُورًا، وإنَّ المرءَ -بقَدْرِ ما يذهبُ به العَجَبُ
كلَّ مذهبٍ مِنْ عظمةِ أولئكَ الرِّجَالِ، وروعةِ هؤلاءِ الأبطالِ- لَيَعْجَبُ
مِنْ الدِّيْنِ الَّذِي هَذَّبَهُم، والنَّبِيِّ الَّذي أدَّبَهم.
لَقَد تفتَّقَ رَحِمُ
هذهِ الأُمَّةِ عَنْ أُنَاسٍ الوَاحدُ منهُم يُعْدَلُ بأُمَمٍ، بَلْ بقرونٍ
بأكملِهَا، وذلكَ أَنْ تضربَ مثلًا بأمةِ الإسلامِ اليومَ، بالألفِ مليونِ مسلمٍ
!أَرني واحدًا منهُم يستطيعُ أَنْ يُدْلِيَ بصفحاتٍ مِنْ حَيَاتِهِ البطوليَّةِ
توازي ما قدَّمه أبو بكرٍ أو عمرُ أو خالدُ بنُ الوليدِ أو أبو عبيدَةَ أو سعدُ
بنُ أبي وقّاصٍ أو عمرُو بنُ العاصِ أو عُمرُ بنُ عبد العزيزِ أو هارونُ الرَّشيدِ
أو صلاحُ الدِّينِ أو نورُ الدِّينِ محمودٌ؟.
إنَّنا مَعْ رجلٍ،
بَلْ رجالٍ! بَلْ جيشٍ! بَلْ أُمَّةٍ! قرأْنا سِيَرَ الأبطالِ، وسمِعْنَا أخبارَ
الفرسانِ، ورأْينا غرائبَ الشُّجْعَانِ؛ ولكنْ مثلُ خالدِ بنِ الوليدِ لَمْ تَرَ
عَينٌ، ولَمْ تَسمَعْ أذنٌ، ولَمْ يأتِ نبأٌ! إنَّهُ البطولةُ في أَقْوى أحوالِها،
والشجاعةُ في أعظمِ أشكالِها، والحِنْكَةُ في أَدْهَى أهوالِها.
"خالدُ بنُ الوليدِ"؛
ما هذا الاسم الكريم؟ ما هذا الخلود العظيم؟ ما هذا الجلال؟ ما هذا الجمال؟
خالدُ بنُ الوليدِ بنِ
المُغيرةِ أبو سُليمانَ القرشيُّ المكيُّ، هذا القائدُ الذي تناثرَتْ رؤوسُ الكفرِ
عندَ أقدامِهِ، هذا سيفُ اللهِ المسلولُ، هذا فارسُ الإسلامِ على الإطلاقِ، هذا
أسدُ المعاركِ، وهِزَبْرُ المواقفِ، الإمامُ الكبيرُ، والمجاهدُ الشهيرُ، حاصدُ
رؤوسِ الكفَرةِ، وممزِّقُ أستارِ الظَّلَمَةِ، مُرعبُ الأَكَاسرةِ، ومخيفُ
الأقاصرةِ، ومرهبُ البطارقةِ؛ خالدٌ مِنْ أشرافِ قريشٍ في الجاهليَّةِ، وكانِ
بطلَها وفارسهَا، وإليهِ أعنَّةُ الخيلِ بِها.
ذهبَ جزءٌ مِنْ شجاعةِ
خالدٍ وبسالتِهِ هدرًا حينما صرفَهُ مع المشركينَ في قتالِ المسلمينَ؛ لَقَدْ
غرَّتْهُ حميَّتُهُ وشجاعتُهُ وبطشُهُ عَنْ التَّفكيرِ جيِّدًا في الطريق الَّذي
يسيرُ فيهِ، وكانَتْ ثقةُ كفارِ قريشٍ بِهِ، وشدُّهم مِنْ أزرِهِ، وتأميرُهُ
عليهِم، تَصْرِفُهُ عن التَّأمُّلِ في الواقعِ الَّذي يعيشُهُ، والهدفِ الَّذي
يحاربُ مِنْ أَجْلِهِ؛ فلمَّا أرادَ اللهُ لَهُ الهدايةَ، بدأَتْ ومضاتُ الإسلامِ
تداعبُ قلبَهُ ووجدانَهُ، وبدأَ خالدٌ يحاسبُ نفسَهُ على هذهِ الطَّاقةِ في جسدِهِ
أينَ يصرفُها، ولماذا؟ وكيفَ؟ فوقَرَ في نفسِهِ أَنْ يذهبَ إلى رسولِ اللهِ -صلى
الله عليه وسلم- .
وفي هذهِ الأثناءِ كان
عمرُو بنُ العاص يحدِّثُ نفسَهُ بالأمرِ ذاتِهِ، وقَدْ اتَّجَهَ إلى المدينةِ
يريدُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فإذا بخالدِ بنِ الوليدِ خارجٌ مِن
مكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عمرُو: أينَ تريدُ يا أبا سليمانَ؟ قال: أذهبُ -والله-
أُسلمُ، فحتَّى متى؟ فقال عمرُو: وأنا ما جئْتُ إلَّا لأُسْلِمَ! فتصاحبَا -خالدٌ وعمرُو- إلى المدينةِ.
فدخل خالدُ بنُ
الوليدِ على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فاستقبلَهُ، وهَشَّ لَهُ وبَشَّ في
وجهِهِ، فأعلنَ خالدٌ إسلامَهَ ومبايعتَهُ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ
لَهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ كُنْتُ أرى لك عَقلًا رجوتُ
ألَّا يُسْلِمَكَ إلَّا إلى خيرٍ".
أسلمُ خالدٌ فإذا
بقوتِهِ وشجاعتِهِ تُصبحُ أضعافًا مضاعفًة؛ لقَدْ أصبحَ لَهَا هدفٌ، ووراءَها
دافعٌ، ولها طعمٌ، وألهبَتْها حرارةُ الإيمانِ، وأضنَتْها أنوارُ الإسلامِ؛ ثمَّ
شعرَ خالدٌ مَعْ كلِّ ذلكَ بحاجتِهِ إلى أَن يعوِّضَ تلك المعاركَ التي خاضَها في
حربِهِ على المسلمينَ، وأَنْ يكفِّرَ عَنْ تلكَ الأيّام الَّتي قاتلَ فيها
المؤمنينَ، فأصبحَ ممتلِئًا عزمًا، مترعًا تصميمًا، متدفقًا حيويَّةً.
وبدأَتْ أوَّلُ
جولاتِهِ الحربيَّةَ في معركةِ مؤتةَ، تلك المعركةُ الداميةُ الخطيرةُ الَّتي
اجتمعَ فيها أكثرُ مِنْ مائةِ ألفٍ مِنْ الرُّومِ وأحلافِهِمْ مِنْ قبائلِ العربِ
بالشّامِ لقتالِ ثلاثةِ آلافٍ مِنْ المسلمينَ، وكادَتْ أن تنزلَ بهم كارثةٌ
عُظْمى، لولا رحمةُ اللهِ تعالى، ثمَّ سياسةُ خالدٍ.
كانَ خالدٌ فردًا مِنْ
أفرادِ الجيشِ، وكَانَتْ الرّايَةُ بيدِ زيدِ بنِ حارثةَ، فقُتِلَ، فأخذَها جعفرُ
بنُ أبي طالبٍ، فقاتَلَ بها حتّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخذَها عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ
فقُتِلَ، ثُمَّ أخذَها خالدُ بنُ الوليدِ فاستطاعَ بسياستِهِ وحنكتِهِ أَنْ يخيفَ
الرُّومَ، وأَنْ ينقذَ جيشَ المسلمينَ، وقَدْ جاءَ الوحيُ بخبرِ تلكَ المعركةِ إلى
النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فصعدَ المنبرَ، وأخذَ يخبرُ الناسَ بتفاصيلِ
المعركةِ وعيناهُ تذرفانِ بالدُّموعِ، فقال لهم: "لقَدْ أخذَ الرّايةَ زيدٌ
فقُتِلَ، ثمَّ أخذَهَا جعفر فقُتِلَ، ثُمَّ أَخذَها ابنُ رواحةَ فقُتِلَ، حتّى
أخذَ الرّايةَ سيفٌ من سيوفِ اللهِ، وفتحَ اللهُ عليهم".
يقولُ خالدٌ: لقَدْ
اندقَّ في يديْ يومَ مؤْتةَ تسعةُ أسيافٍ فما صبرَتْ معي إلَّا صحيفةٌ يمانية!
يقولُ أبو عبيدَة:
سمعْتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ : "خالدٌ سيفٌ مِنْ سيوفِ
اللهِ عزَّ وجلَّ، ونِعْمَ فَتى العشيرةِ!" أحمد وصححه الألباني. وَقَدْ
شَهِدَ خالدٌ مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فتحَ مكَّةَ، وغزوةَ حنينٍ.
وبعدَ أَنْ لحقَ رسولُ
اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بالرفيقِ الأَعْلى هبَّتْ أعاصيرُ الرِّدَّةِ،
وتكالبَتْ جموعُهُم، فكانَ خالدٌ الساعدَ الأيمنَ لأبي بكرٍ في قتالِهِم، وقد كتبَ
اللهُ بسببِهِ نصرًا مؤزَّرًا للمسلمينَ، بعدَ هجمةٍ رهيبةٍ مخيفةٍ مِنْ فُلولِ
المرتدِّينَ، وعلى رأسِهِم مُسيلمةُ الكذَّابُ.
وبعدَ أَنْ وُئدَتْ
هذه الفتنةُ بدأَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ يُهيِّئُ الجيوشَ لقتالِ الفرسِ في العراقِ
وما وراءَها، ولقتالِ الرُّومِ في الشَّامِ، وأرسلَ جيوشَهُ إلى العراقِ بقيادةِ
خالدِ بنِ الوليدِ، فاستهلَّ خالدٌ عَملَهُ بكتبٍ أرسلَها إلى جميعِ ولاةِ كِسْرَى
جَاءَ فيها: "بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. مِنْ خالدِ بنِ الوليدِ إلى
مرازبةِ فَارسَ. سلامٌ على مَنْ اتَّبَعَ الهُدَى. أمّا بعدُ: فالحمدُ للهِ الَّذي
فضَّ خدمَكُمْ، وسلبَ مُلكَكُمْ، ووَهَّنَ كَيدَكُم. مَنْ صَلَّى صلاتَنا،
واستقبلَ قِبْلَتَنَا، وأكلَ ذبيحتَنا فذلكُمْ المُسلمُ، لَهُ مَا لَنَا وعَليه ما
عَلينَا. إذا جاءَكم كتابي فابعثُوا إليَّ بالرُّهَنِ، واعتقدُوا منِّي
الذِّمَّةَ، وإلَّا فوالَّذي لا إلهَ غيرُه! لأبعثنَّ إليكم قومًا يحبُّون الموتَ
كما تحبُّون الحياةَ" سنن سعيد بن منصور:2/191.
وهكذا انطلقَ خالدٌ في
معاركَ ضاريةٍ، وحروبٍ داميةٍ ،يُمزِّقُ أستارَ الشِّرْكِ، ويُقَطِّعُ أوصالَ
الوثنيَّةِ، ويضيءُ ظلامَ الأرضِ بنورِ الإسلامِ.
وحينما اشتدَّ خطرُ
الرُّوم على جيوشِ المسلمينَ في الشَّامِ، قرَّرَ أبو بكرٍ أَنْ يبعثَ إلى خالدٍ
ليتَّجهَ مِنْ العِراقِ إلى الشَّامِ لمؤازَرَةِ المقاتلينَ المسلمينَ هناكَ،
وقالَ أبو بكرٍ حينما سمعَ بكثرةِ الرُّومِ وخطرِهِم: "والله لأشفينَّ
وساوسَهم بخالدٍ".
وصلَ خالدٌ إلى
الشَّامِ بجيشِهِ في وقتٍ وجيزٍ، وكانَ مِنْ كراماتِ اللهِ لهُ أَنَّ الأرضَ
تُطْوى له طيًّا، فقَدْ اجتازَ الصحاريَ، وقطعَ الفيافيَ مِنْ حَدِّ العراقِ إلى
أوَّل الشَّامِ في خمسِ ليالٍ، وانضمَّ إلى جيوشِ المسلمينَ، وقَدْ ولَّاه أبو
بكرٍ قيادتَها جميعًا، حتَّى أصبحَ مجرَّدُ ذِكْرِ اسمِهِ يصيبُ الرُّومَ بالفزعِ،
ويملأُ قلوبَهُم بالهلعِ.
وفي معركةِ اليرموكِ
تلكَ المعركةِ الفاصلةِ الَّتي تحدَّثْنا عنها أخذَ خالدٌ سيوفًا، وسلَّمَها
للنِّساءِ، وأمرهُنَّ بالوقوفِ وراءَ صفوفِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ جانبٍ، وقالَ
لهنَّ: مَنْ يولِّي هاربًا فَاقتلْنَهُ.
وقبلَ أَنْ يبدأَ
القتالُ بين المسلمينَ والرُّومِ طلبَ قائدُ الرُّومِ مِنْ خالدٍ أَنْ يبرزَ إليهِ
ليقولَ لَهُ بضعَ كلماتٍ، فبرزَ إليهِ خالدٌ، فقالَ لَهُ قائدُ الرُّومِ: يا
خالدُ، قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُخرجْكُم مِنْ بلادِكُم إلَّا الجهدُ
والجُوعُ، فإنْ شئْتُم أعطيْتُ كلَّ واحدٍ مِنْكُم عَشْرَةَ دنانيرٍ وكسوةً
وطعامًا، وترجعونَ إلى بلادِكُم، وفي العامِ القادمِ أبعثُ إليكُم بمثْلِهَا.
فغضبَ خالدٌ مِنْ هذا
العرضِ السخيفِ الَّذي يحملُ في طيّاتِهِ كلَّ معاني الخوفِ والهزيمةِ، ففاجأَهُ
بكلامٍ مروِّعٍ؛ إذْ قَال له: إنَّهُ لَمْ يخرِجْنا مِنْ بلادِنَا الجوعُ كَما
ذَكرْتَ، ولكنَّنا قومٌ نشربُ الدِّماءَ، وقَدْ علمْنا أَنَّهُ لا دمَ أَشْهَى
وَلا أطيبَ مِنْ دمِ الرُّومِ، فجِئْنا لذلك! ثُمَّ رفعَ خالدٌ صوتَهُ
بالتَّكْبيرِ يأمرُ المسلمينَ بالانقضاضِ على أعداءِ اللهِ الذينَ كانَتْ
أعدادُهُم تربو على مائتي ألفٍ، بينما كانَ عددُ المسلمينَ لا يزيدُ على خمسةٍ
وثلاثينَ ألفًا.
ومِنْ أعجبِ العجبِ
أَنَّ خالدًا انْقضَّ على ميسرةِ الرُّومِ ومعَهُ مائةُ فارسٍ فَقَطْ، والرُّومُ
أربعونَ ألفًا، فأوقعُوا بهم هزيمةً ساحقةً، وكانَ خالدٌ يصيحُ بالمائةِ فارسٍ
قائلًا لهُمْ: والَّذي نفسي بيدِهِ! ما بقيَ مِنْ الرُّومِ مِنْ الصَّبرِ والجلدِ
إلَّا مَا رَأيْتُم، وإنِّي لأرجُو اللهَ أن يمنحَكُم أكتافَهُم. اللهُ أكبرُ،
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ! يا لها مِنْ قُوَّةٍ خارقةٍ، ومِنْ شجاعةٍ تفوقُ
الخيالَ!.
أولئكَ جندُ اللهِ
ساروا بِخيْلِهِمْ *** علَى البحْرِ حتَّى هابَهُم كلُّ صدَّادِ
وجُنَّ جُنونُ
الفُرْسِ والرومِ إذ رأَوْا *** خُيُولاً على الأمواجِ تمضي بآسادِ
هوَى عرشُ كسرى وانقضى
مُلكُ قيْصَرٍ *** ونَادَى منادي الحقِّ في الحضْرِ والبادي
طَوَيناهُ نَروي
قصَّةَ المَجْدِ والتُّقى *** فكم مِنْ
جُمُوعٍ عابِراتٍ وأفرادِ
وكمْ رايةٍ في الصينِ
والهندِ تعتلي *** تُحدِّثُ عن أحفادِ سعدٍ ومِقْدادِ
دُعاةٌ إلى التَّوحيدِ
والعلمِ والرِّضا *** لجند رسول الله منْ خيرِ أحفادِ
سرى عِطْرُنا في
الأَرْضِ واهتَزَّت الرُّبى *** على نغَماتِ الحقِّ من خيرِ وُرَّادِ
سلوا كلَّ بحْرٍ عن
عُلانا ويابسٍ *** سلوا السَّهلَ والصحراءَ والتلَّ والوادي
سلوا المغْرِبَ الأقصى
وأزهارَ فارسٍ *** وأنهارَ أوروبَّا وآثارَ بغدادِ
مغاويرُ نأبى الذُّلَّ
والضَّيْمَ والخنا *** وننبِذُ من ديواننا كلَّ شَرَّادِ
ولَقَدْ تواصلَ جهادُ
هذا البطل الهُمامِ، وفتحَ اللهُ على يديهِ مِنْ البدانِ مالا نظيرَ لَهُ، وقَدْ
كانَ يقولُ في نَشْوةٍ وسرورٍ: ما أدري مِنْ أيِّ يوميِّ أفرُّ: يومَ أرادَ اللهُ
أَنْ يُهْدِيَ لي فيهِ شهادةً، أو يومَ أرادَ اللهُ أَنْ يُهْدِيَ لي فيهِ كرامةً.
لقَدْ كانَ خالدٌ
يعشقُ الجهادَ في سبيلِ اللهِ، وتتوقُ لَهُ نفسُهُ، وكانَ غُبارُ أقدامِ
المجاهدينَ أحبَّ إليهِ مِنْ الطِّيْبِ والبُخورُ، وكانَ الناسُ يقولونَ عنهُ
إنَّهُ لا ينامُ ولا يدعُ أحدًا ينامُ. استمعْ إلى أمنياتِ خالدٍ يرتِّلُها في
مسمعِ الزَّمان فيقولُ: ما مِنْ ليلةٍ يهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محبٌّ أحبُّ
إليَّ مِنْ ليلةٍ شديدةِ البردِ، كثيرةِ الجليد، في سريَّةٍ أصبِّحُ فيها العدوَّ.
ولمَّا حضرَتْ خالداً
الوفاةُ قالَ: لقَدْ طلبْتُ القتلَ مِنْ مظانِّهِ فلَمْ يُقَدَّرْ لي إلَّا أَنْ
أموتَ على فِراشي، وما مِنْ عملي شيءٌ أَرْجَى عندي بعدَ التَّوحيدِ مِنْ ليلةٍ
بِتُّها وأنا مُتَتَرِّسٌ والسماءُ تُهِلُّني بالمطرِ في ليلةٍ شديدةِ البردِ
ننتظرُ الصبحَ حتَّى نغيرَ على الكفَّارِ. ثمَّ بكى! وقال: ما في جسدي شبرٌ إلا
وفيه ضربةٌ بسيفٍ، أو رميةٌ بسهمٍ؛ وها أنا أموتُ على فِراشي حَتْفَ أنفي كما
يموتُ البعيرُ! فلا نامت أعينُ الجبناءِ!.
وهكذا تُطْوى صفحةُ
هذا البطلِ المقدامِ، وقد عَهِدَ بوصيَّتِه إلى عمرَ، وما الوصيةُ، وماذا في
تَرِكَةِ خالدٍ الَّذي نثرَ كنوزَ الأكاسرةِ والقياصرةِ؟ ماتَ ولَمْ يَدَعْ إلا
فرسَهُ وسلاحَهُ!.
وحينَما سمعَ أميرُ
المؤمنينَ الخبرَ فزعَتْ نفسُهُ، ورجَفَ قلبُهُ، وذرفَتْ عينُهُ، وقالَ: رحمَ
اللهُ أبا سليمانَ! رحمُ الله أبا سليمانَ!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق