الخميس، 10 يناير 2013

التحذير من الكذب



    ظاهرة مستشرية، وسمة غالبة، ومرض فتَّاك، وداء عضال، وخُلُقٌ ساقطٌ بغيضٌ إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى الفِطرة الصادقة، يأباه الشرفاء، ويمقته العقلاء، وتمجُّه أنفس النبلاء، يُهين أصحابه، ويُذل أربابه، ويزري بمروجيه؛ إنه الكذب.
الكذب آفة من آفات العصر، وسمة من سمات التدني، إنك حينما تتأمل الكذب وآثاره تدرك لماذا مقته الإسلام، ونهى عنه العلَّام، تدرك عظمة هذا الدين وإعجازه، وروعته وإحكامه، فتعالوا إلى لحظات صادقة، ولكن مع الكذب، وإلى دقائق غير كاذبة، ولكن مع الكذب، وسوف ترون أنه أساس كل شيء، وسبب كل بلاء، وأنه شريك أساس في جُلِّ أدواء الأخلاق، ومعظم بلاوى الزمان، وأكثر مهاوى الردى، فهل صُدّ الناس عن الدين، وشُكك في الرسالة، وكُذب الأنبياء، إلا بأسباب الكذب؟.
وهل النفاق إلا معتقَدٌ أساسه الكذب، وبني على الكذب؟ وهل الرياء إلا عمل غُلِّفَ بالكذب، فيتظاهر أنه لله وهو لغير الله؟ وهل البِدَع والخرافات إلا ثمرة للكذب على الله ورسوله؟ وهل التجني على الوحي، والنيل من الصحابة، والانحراف في المعتقد، إلا بأسباب الكذب؟ وهل شوه الدين، ونُفِّر من الإسلام إلا بالكذب؟ وهل الحمَلات الضارية اليوم على المسلمين، والتخويف منهم، والاتهامات لهم إلا بأسباب الكذب؟ وهل استبيحت بلدان، وانتهكت أعراض، ونُهبت مقدسات، واحتُلَّت الأوطان، وسلبت خيرات إلا بالكذب؟.
وهل تبث مئات الشاشات، وعشرات القنوات إلا الكذب؟ هل يُتناقَل عبر كثير من مواقع الإنترنيت إلا الكذب؟ وهل شوهت سمعة أناس، ولُطِّخَتْ كرامة فئات، إلا بالكذب؟ وهل كرِهَت الشعوب حكامَها وولاتها إلا بسبب الكذب؟ وهل يفوز مرشح بنسبة 99% إلا بالكذب؟ وهل تهوَّر أناس وانغمسوا في وُحول الإرهاب إلا بالكذب عليهم، وتقليب الحقائق لهم، وإيهامهم أنهم في جهاد مقدس؟.
وهل نُهبت أموال المساهمين إلا بالكذب؟ وهل أصبحت كثير من البيوت تنام على جمر الفقر والقهر إلا بأسباب الكذب في الأسهم؟ وهل فسدت المودة بين المسلمين شعوبًا وأفرادًا إلا بالكذب؟ وهل حُشيت عقول أجيالنا من خلال الأفلام والمسلسلات والمجلات والصور المتحركة إلا بالكذب؟ وهل ضاعت الثقة بين المسلمين إلا بالكذب؟ فأصبح المسلم يمسي ويصبح وهو لا يكاد يصدق أحدًا، أو يثق بأحد، حتى بأقرب الناس إليه! وهل كره الناس التجارة والشراكة والمداينة والتعاون إلا بأسباب الكذب، حينما يُغشُّون ويُحتال عليهم، وتبتز أموالهم؟ وهل مُحِقَتْ بركة المشاركة والمبايعة إلا بسبب الكذب؟.
وهل فسدت العلاقة في كثير من البيوت وتشتت أعداد من الأقارب، وخيم الفراق والطلاق عند كثير من الناس إلا بأسباب الكذب؟ كذب المفسدين والنمَّامين والمحرضين والحاسدين، وهل تكره الزوجة زوجها، ويكره الزوج زوجته، في كثير من الأحيان، بل وينقطع حبل المودة، إلا بأسباب كذب أحدهما على الآخر؟ هل رأيتم أشد مقتًا، وأمضى مرارة من امرأة تثق بزوجها، وتصدق له، وتعطيه مشاعرها وأحاسيسها، بل وحياتها، ثم يخدعها ويكذب عليها ويبتزها؟! ورجل يصدق لامرأته، ويقضي عمره يحسن إليها، ويسعى ليسعدها، ويضع ثقته فيها، ثم تكذب عليه وتغشه وتخدعه!.
 ما الذي غرَّر بكثير من بنات المسلمين فذُهب بشرفهن، ودنست سمعتهن، إلا حينما يأتي الكذاب المحتال المخادع المتظاهر بالحب، المدَّعِي للرحمةِ والشفقة، المتزين بالأحاسيس المرهفة، المكثر من الوعود، فيتلاعب بمشاعرها حتى يصل إلى مراده ثم يركلها بقدمه، ويصبح كاذبًا في كل ادعاء؟ وهل تروِّج كثير من المطبوعات والمنشورات ما لديها إلا باختلاق أكاذيب غريبة، ووقائع عجيبة؟ وهل أثرى كثير من الناس، وتضخمت أرصدتهم، إلا بالكذب، وهل.. وهل.. وهل...
فالكفر والنفاق والرياء والفجور والبهتان والخديعة والمكر والظلم والخُلف والرياء والغش والزنا والسرقة والتحايل والغيبة والنميمة كلها أمراض أستاذها الكذب، ولو بحثتَ وراء كُلِّ مُصِيبة، وتحتَ كُلِّ خطيئة، فستجد أنها مُتَلَطِّخة بالكَذِب، مغلَّفَة به، أو هو أساسُها وبنيانُها وعِمَادُها، وهنا يتجلى الإعجاز النبوي الكبير، هنا تبدو روعة هذا الدين، هنا تبدو عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أراد الله أن تكون أهم صفة له في الجاهلية وفي الإسلام أنه الصادق الأمين، وأن يلقب ثاني رجل بعده بالصدِّيق!.
هنا تبدو عظمته -صلى الله عليه وسلم- حينما يقال له: "يا رسول الله! هل يزني المؤمن؟ قال: "قد يكون ذلك" قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: "لا" ثم أتبعَها بقوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل:١٠٥انظر: إحياء علوم الدين: 3/135 ، والمغني عن حمل الأسفار للعراقي: 2/808.
وليس المقصود بهذا الحديث أن المؤمن لا يكذب أبدًا، بل قد يقع منه ذلك ويتوب ويتوب الله عليه، ولكن الأصل فيه أن لا يكذب، وأن يكره الكذب، وتأباه نفسه؛ ويقصد أيضًا بهذا الحديث أن المؤمن لا يطبع على الكذب، فلا يمكن أن يكون مؤمنًا وكذاباً في نفس الوقت! ويدل على ذلك الحديث الآخر: "كل خصلة يُطْبَعُ عليها المسلم، إلا الكذب والخيانة. المغني عن حمل الأسفار للعراقي:2/810.
فكل الخصال السيئة قد تتكرر في المؤمن وتقع منه إلا الكذب والخيانة، وما ذلك إلا لتعظيم أمر الكذب، وتقبيح أربابه، وهكذا تبدو عظمة هذا الصادق الأمين حينما يهتف في أسماع الناس جميعًا بأحاديث عن الكذب تبين شناعته وقبحه ومخالفته لروح الدين، وروعة المنهج، وصدق الرسالة، وذلك لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بما يؤل إليه الكذب، وما يحدثه من الضرر والأذى والمعاصي، والفرقة والشحناء والفتن التي لا حصر لها.
فها هو -صلى الله عليه وسلم- يؤكد أن الكذب صفة للمنافق، وليست للمسلم فيقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، وحينما نتأمل هذه الثلاث نجد أنها جميعًا قامت على الكذب، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «أربع مَن كُن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا قاطع فجر"، وتأملوا هذه الأربع فستجدونها جميعًا مبنية على الكذب!.
ثم يشرح -صلى الله عليه وسلم- أثرًا من آثار الكذب القبيحة، وسببًا من أسباب تحريمه، فيقول: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"، تصور نفسك لو يكتب اسمك في مقر عملك في لوحة العرض أن فلاناً بن فلان كذاب! فكيف لو يكتب في السوق؟ كيف لو يعلَّق على باب المسجد؟ كيف لو يكتب على جميع شاشات القنوات الفضائية لمدة أسبوع أو شهر؟ إذًا فكيف بك إذا كتبت هذه اللوحة المزرية هناك عند رب العالمين، هناك حيث تراها الملائكة، وتراها البشرية منذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة، فلان بن فلان أو فلانة بنت فلان كذابة كذابة، يا الله على النساء بالذات! ماذا يدور في مجالسهن؟ ماذا يدور في مكالماتهن؟ ماذا يدور في لقاءاتهن؟ فهل تـخيلن هذه الخاتمة؟.
ويعظم إثم الكذب حينما يكون على الله تعالى أو على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيا عجبًا لأناس يتطاولون ويُحلِّلون ويحرِّمون، ويجيزون ويمنعون، دون معرفة أو تثبُّت،(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر:٦٠]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كذب عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيتبوأ مقعده من النار".
ويقبُح الكذِبُ، ويزداد إثمه، حينما يكون من رجل عظيم، أو ذي هيئة، أو في مكان مسؤولية، حيث لا حاجة به إلى الكذب، وحيث أنَّ كذبه يتعدى ضرره إلى جماهير الناس، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملِكٌ كذَّاب، وعائل مستكبر".
أما حينما ننظر إلى تحذيره -صلى الله عليه وسلم- من الكذب في تعامل الناس يما بينهم، فإنه أمْر ترتعد له القلوب، وترجف له الأبدان، فيقول -صلى الله عليه وسلم- : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: المنـــَّان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره"، ويقول      -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل، ورجل منع فضل مائه، فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
 ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله -عز وجل- وهو عليه غضبان"، وفي حديث آخر: "أربعة يبغضهم الله... ذكر منهم: البيَّاع الحلَّاف"، فالكذب خلق مقيت بغيض؛ ولكنه يزداد بشاعة وجرمًا إذا صحبه الحلف بالله تعالى، ولذلك وردت المبالغة في التخويف من ذلك، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما حلَف حالِفٌ بالله فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة". يا الله! ما حال كثير من القلوب إذًا؟.
هكذا إذًا الكذب، إنه بغيض مقيت منتن، مخالف لكل أسس الشهامة والرجولة والإنسانية والأديان، إنه الجيفة التي تزكم الأنوف، وتورد الحتوف، ولذلك روي عنه -صلى الله عليه وسلم- : "إن العبد ليكذب الكذبة يتباعد الملك عنه مسير مِيلٍ مِن نَتَنِ ما جاء به".
لذلك حذَّرَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، حتى لو كان لمجرد الإضحاك أو الممازحة؛ لأن ذلك يغري باستساغته وقبوله والتعوُّد عليه، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "ويلٌ للَّذِي يُحَدِّثُ فيكذب ليُضحكَ به القوم! ويل له! ويل له!" ثم يرغِّب -صلى الله عليه وسلم- في الابتعاد عن كل مظاهر الكذب فيقول: "أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا".
وأخيرًا، هذا الحديث نسوقه لكل من تهاون بالكذب، أو استساغ الكذب، بل ولكل من يرجو لقاء الله، ويخشى عقابه، أن يبتعد عن هذا الخلق المشين، والداء اللعين، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتُ كأنَّ رجُلاً جاءني فقال لي: قم؛ فقُمْتُ، فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس، بين القائم كلوب من حديد يلقمه في شدقه الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله ثم يجذبه مثل الجانب الآخر فيمده، فإذا مده رجع الآخَر كما كان. فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ فقال: رجل كذَّاب، يُعَذَّبُ في قبره إلى يوم القيامة" فاحذروا الكذب! واحذروا قوله تعالى: (فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران:61].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق