يا لَجلال الموقف! ويا
لعظمة المشهد! السماء في موكب عظيم يتنزل فيه الروح والملك، سبحانك ربي! ما أعظمك
وما أعدلك! والأرض في عيد تتبرأ من الدماء المسفوكة، والأموال المحرمة، والخُطى
الآثمة، وترحب بالدماء التي أهريقت في سبيل الله وحده.
ما أروع المنظر، وأبدع
المشهد، وأعذب الموقف، وأجَلَّ المقام! مناظر متنوعة، ومشاهد متعددة؛ تارة يفرح
القلب، وينشرح الصدر، وتتبلج الأسارير؛ وتارة يرجف الفؤاد، ويهتز الوجدان، وتذرف
العينان.
هذا العجوز الكبير
المنهك الذي يجتر الخطا، لماذا أتى؟ وإلى أين يذهب؟ هذه المرأة الطاعنة في السن،
اللاهثة الفؤاد، الدامعة العين، المحدودبة الظهر، ما الذي جاء بها؟ وأي عاطفة
تسوقها؟ وعمَّن تبحث؟ هذا الفقير المعدم، والمسكين البائس، لماذا قضى العمر، وطوى
السنين، وهو يجمع تكاليف الرحلة، وقيمة التذكرة، ليقبل في شوق، ويقدم في لهف؟.
هذا المعوق الذي يزحف
على الأرض، هذا المشلول المحمول على الأكتاف، هذا الكفيف الذي يتلمس الطريق ويتأمل
الأحداث وكأنه يبصر كل شيء يبتسم في شوق، ويخطو في شغف، هذا الذي يمشي حافيا
ويتلذذ بذلك وكأنما يمشي على الحرير، هذا النداء، هذا الدعاء، هذا البكاء، هذا المريض،
هذا الأمير، هذا الوزير، هذا الملك.
هؤلاء جميعا لماذا
تدافعوا؟ لماذا تسابقوا؟ لماذا قدموا؟ يريدون مَن؟ ويقصدون من؟ ويهتفون لمن؟
ويخطبون وُدَّ مَن؟ يريدون الله، الله، الله؛ قادهم الحب، وساقهم الشوق, وحداهم
الهوى:
إِذا نحنُ أَدْلَجْنَا
وأَنْتَ إِمَامُنا *** كَفَى لِلْمَطايا طيبُ ذِكْراكَ حادِيَا
قال تعالى: (وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27]؛ إنها معجزة كبرى، وآية عظمى، هذه الملايين
المملينة، والآلاف المؤلفة التي أقبلت وتوافدت، وتدافعت وتزاحمت، وتسابقت وتنافست.
مَن أجبرها على
القدوم؟ ومن قسرها على الحضور؟ هل جاءت استجابة لوعود بشرية؟ أم نتيجة لتهديدات
إنسانية؟ إنها جاءت طائعة، وأقبلت راغبة، تنبض بالشوق، وتترجم عن الحب، وتطمع في
المغفرة، وتسعى إلى الجنة، وتترنم بالتوبة.
يا لها من وفود هائلة،
وجموع مذهلة، يهتز لها المكان، ويطرب لها الزمان، ويعجب التاريخ! ولكن الذي يمض
القلب، ويتعب الفؤاد، ويمزق الروح، ويفتت الأكباد أن هذه الجموع على كثرتها،
والوفود على تدفقها، ليس لها من بني الدنيا وزن يذكر، أو حساب يحسب، أو رأي يحترم،
أو كرامة تصان، أو كلمة تسمع، أو شكوى تسمع؛ إنهم كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-
كثير، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وما ذلك إلا للتفريط في منهج الباري، والتهاون
بشريعة الخالق، والتفرق في الدين، والتباين في القلوب، والتقاطع في المودة،
والتضييع للأخوة.
حج -صلى الله عليه
وسلم- بقرابة مائة ألف مسلم كلهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،
كانوا يتسابقون لطاعته، ويأتمرون بأمره، وينتهون لنهيه، بل يتسابقون للحصول على
ذرة من ذرات جسمه، وشعرة من شعرات رأسه.
كانت الجنة محط
آمالهم، وكان الإخلاص قائدهم، والتوحيد رائدهم، والأخوة الصادقة عنوانهم، والإيثار
والمودة شعارهم، فنالوا رفعة الدنيا والآخرة؛ غيروا وجه التاريخ، حطموا حصون
الشرك، اقتلعوا قلاع الكفر، اجتثوا جذور الباطل، كسروا ظهور الأكاسره، قصروا أموال
القياصرة، ثم جئنا نحن وأتينا بدلا عن الواحد بألف، وبدلا عن المائة بمليونين، هذا
في الحج فقط:
والنَّاسُ أَلْفٌ
مِنْهُمُ كَوَاحِدٍ *** وواحِدٌ كَالألْفِ إنْ أمْرٌ عَنَا
لبسنا نفس اللباس،
ووقفنا نفس الموقف، ورددنا نفس العبارات, ولكن القوم غير القوم، والقلوب غير
القلوب، والنوايا غير النوايا، والتوحيد غير التوحيد!
أُولئِكَ آبَائي
فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ *** إِذا جَمَعَتْنَا يَا جريرُ المـَجَامِعُ
فلم تهتز لأجلنا ذرة
من جسم الطاغوت، وما تحركت شعرة من رأس الكفر، وما رجف فؤاد من أفئدة الباطل؛ غاب
مفهوم الإيمان، وضعف معنى التوحيد، فغابت معه روابط الأخوة، وتلاشت أواصر المودة،
والشيطان الذي ما رئي أذل ولا أحقر منه في يوم عرفة، هل يا ترى ما زال أمره كذلك؟
أم أنه قد نجح في زرع العداوات، وفاز في غرس الخصومات، فلا يحزنه اجتماع الأقدام،
واتحاد الأجسام، وقد تباينت الأفكار والأفهام، وسادت الفرقة والخصام؟.
إن الحج مدرسة عظيمة
لتعليم الوحدة، وتدريس الألفة، وغرس أشجار المودة؛ هل رأيت على وجه الأرض اجتماعا
كهذا الاجتماع، ولقاء يضاهي ذاك اللقاء، تُقبل القلوب فيه قبل الأجسام، ويتخلى كل
قادم عن زي بلده، وعن لباس قومه، ليشترك مع إخوانه في زي واحد، وهندام واحد، يأخذ
الألباب ببياضه الناصع، ونقائه المبهج؟ إن بياض الإحرام يجب أن يكون إعلانا لبياض
القلوب، وصفاء النفوس، ونقاء الأفئدة.
تقول دائرة المعارف
البريطانية: يؤدي الحج كل سنة مليونان من الأفراد، وتؤدي هذه العبادة دور قوة
توحيدية في الإسلام بأنها تجلب له أتباعا من مختلف الجنسيات ليجتمعوا معا في
احتفال ديني. ويقول أحد النصارى عن مدى جدوى التبشير في البلاد الإسلامي: سيظل
الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التبشير المسيحي ما دام للإسلام هذه الدعائم:
القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي.
لك أن تتصور كيف يكون
حال المسلمين لو اجتمعت قلوب الحجاج منهم فقط، واتحدت أرواحهم، وتآلفت ضمائرهم،
وحسنت مقاصدهم؛ كم سيكون لهم من الأثر؟ وكم سيتحقق بهم من العزة؟ لو كانوا كذلك
لغيروا وجه الأرض، وجملوا مسيرة التاريخ، وتربعوا على عرش الدنيا! ولكنهم -رغم
كثرتهم- غثاء كغثاء السيل، لا يحسب حسابهم، ولا تخشى جموعهم، ولا تهاب كثرتهم، ولا
يلتفت لهتافهم.
خالفوا نهجهم، وبدلوا
أمرهم، وفرقوا دينهم، وفرحوا بأحزابهم، وتباهوا بألقابهم، وقد حذرهم رب العالمين
من سلوك سبيل المشركين، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:31-32].
وبيَّن -تعالى- أن هذا
الصنف من الناس لا يمثلون الإسلام، وليس النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم في شيء،
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159].
مُتَفَكِّكُونَ فَمَا
تَضُمُّ نُفُوسَهُمْ *** ثِقَةٌ وَلا جَمَعَ القلوبَ صفاءُ
رَقَدُوا وغَرَّهُمُ
نَعِيمٌ بَاطِلٌ *** وَنَعيمُ قَوْمٍ في القُيُودِ بَلاءُ
إن التفرق في الدين
والاختلاف في المنهج، سبب أكبر في تفرق القلوب، وتباين الأفئـدة، وحلول النزاع،
وفشو الشقاق، وضعف الشوكة، وحلول الهزائم، وخور العزائم، ولقد حذر الله تعالى من
الخلاف في الدين، والتفرق في فهمه، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
إن اجتماع الأرواح
أولى من اجتماع الأشباح، وائتلاف المشاعر والأفهام أولى من ائتلاف الوفود
والأجسام، ووحدة الآمال والآلام والإحساس أولى من وحدة الزي واللباس.
إن الأخوة الصادقة هي
روح الدين، ولب الإيمان، وأساس الإسـلام، وعنـوان العقيدة، ومظهر القوة، وقوة
المظهر، وشرف الدنيا، وسعادة الآخرة، ومرضاة الرب، ومغضبة الشيطان، وسرور
الأصدقاء، وغيظ الألداء، وطريق الفلاح، ومبشر النجاح، وينبوع الصلاح.
وإن العصبية والأنانية
والأثرة إذا سيطرت على النفوس محقت الخير، وزرعت الشر، وبثت الفرقة، ومزقت الألفة.
أيها المسلمون: إن
الأمم قد تكالبت علينا، وتداعت لحربنا، وتآمرت لنسفنا، تحاك المؤامرات، وتحبك
التصرفات، وليس لنا إلا الاعتصام بربنا، والتمسك بحبل أخوّتنا، ورباط مودتنا.
إن المسلمين اليوم
حقوقهم مهدرة، وديارهم مستباحة، وحرماتهم مغتصبة، وخيراتهم منهوبة، ودماؤهم رخيصة،
وأشلاؤهم ممزقة، وأطفالهم مشردون؛ لا تسمع شكواهم، ولا ترفع بلواهم، ولا ينصر
مظلومهم، ولا تقبل حُجتهم؛ يذبحون ويمزقون ويشردون، ولا يهتز لهم طرف، ولا يلين
لأجلهم قلب؛ وتؤذى كلاب، أو تمرض قطط، أو تشتكي حيوانات، فترق لها القلوب، ويجمع
لها الأطباء، وتنشأ لنصرتها الجمعيات!.
ينام بنو الدنيا في
مأمن، يأكلون ويشربون، ويتمتعون ويأنسون، والمشرد فقط هو المسلم، والمعذب هو
المسلم، والمنكوب هو المسلم؛ ينامون في العراء، ويسكنون الخيام، ويقتلهم المرض،
وتستشري فيهم الأوبئة؛ يصيح الأطفال، تبكي النساء، تئن الثكالى، يستجدي اليتامى،
والعالم هانئ البال، ناعم الخاطر!.
ولكن عودة صادقة إلى
منهاج ربنا، ودستور عزنا، كفيلة باستعادة المجد، والتفاتة العز، واسترداد الحق،
ودفع الضيم، وكف الأذى، ونشر الهداية، وبث النور، وقيادة الدنيا، وسعادة البشرية،
وما ذلك على الله بعزيز، (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
يا حجاج بيت الله! يا
من تزينتم بهذا الرداء الأبيض النقي، ليكن نقاء القلوب، وصفاء النفوس كلون
إحرامكم.
يا من عطرتم الأفق،
وضمختم الفضاء بهتافات التوحيد! اعمروا حياتكم، وعطروا دنياكم، وضمخوا سيرتكم
بالوحدة الصادقة، والمودة العابقة.
يا من سعيتم في رضا
الرحمن! ومشيتم لطاعة الديَّان، وبذلتم للفوز بالغفران، اسعوا إلى اجتماع الكلمة،
ووحدة الصف، وتكاتف الجهود، فإنها أمر ربكم، وسنة نبيكم، ورفعة دينكم.
يا من رميتم الجمرات!
ارموا بقوة جمرات الفرقة، وشياطين البغضاء، ورؤوس الشحناء.
يا من نحرتم الهدي،
وذبحتم القرابين! انحروا عوامل الخلاف، واذبحوا وسائل الشتات. يا من حلقتم رؤوسكم!
احلقوا بذور الفتن، وأزيلوا عوالق العصبيات.
يا من قبَّلتم الحجر
الأسود! قبلوا دستور محبتكم، والثموا ميثاق صداقتكم، والتزمــوا طريق مجدكم،
واستلموا راية عزكم، وتعلقوا بأستار دينكم.
يا من سعيتم بين الصفا
والمروة! لتسعوا بين خلق الصفاء وصفة المروة، ولتمضوا مشمرين إلى بوابة الوحدة،
وميدان الألفة، وواحة الأخوة.
ويا من طفتم بالبيت
العتيق! فَلْتَطُف المودة في عروقكم، والمحبة في دمائكم، والأخوة في أحشائكم،
والوحـدة في أرجائكم.
يا من شربتم من زمزم، وتضلعتم من مائها! أجروا
أنهار المودة فيما بينكم، وشقوا قنوات المحبة في أرضكم، واشربوا من معينها
الرقراق، وتضلعوا من مائها الدفاق، لتفوزوا برضوان الخلاق.
يا أيها المؤمنون في
أنحاء الدنيا! استمعوا إلى نداء مولاكم، وأصغوا لكلام بارئكم، حيث يقول سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا) [آل عمران:102-103].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق