الخميس، 10 يناير 2013

اللغو


دين الإسلام دين المثل الرفيعة، والأخلاق السامية، والآداب العظيمة؛ إنه الدين الذي يربي أتباعه علىٰ أكمل الأخلاق، وأحسن الآداب، ويحرص علىٰ الرقي بالمسلم إلىٰ آفاق الجمال والكمال.
ولقد قامت شعائر الإسلام وعباداته ومعاملاته علىٰ شوامخ الآداب والأخلاق، وهي جميعاً تسمو بالإنسان إلىٰ سماء النقاء والصفاء؛ تُزكي وجدانه، وتنير عقله، وتهذب مشاعره، وترهف أحاسيسه.
وإن المتأمل في مواسم العبادات العظيمة في الإسلام يجد أن من أهم أهدافها، ومن أسمىٰ حكمها، تدريب المسلم علىٰ حسن الخلق، وجميل الطباع، وروائع المثل.
فالصلاة تنهىٰ عن الفحشاء والمنكر والبغي، والزكاة تطهر النفس، وتقتل الأنانية، وتعلم المودة والمحبة والتراحم؛ والصوم فيه صيام الجوارح عن اللغو والزور والكذب والباطل؛ وكذلك الحج، قال تعالىٰ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" أخرجه البخاري ومسلم؛ إذ الحج مدرسة في الخلق، وملحمة للأدب، وميدان للتهذيب.
وحديثنا اليوم عن خلق نهىٰ عنه الإسلام، وحذر منه الدين؛ حرصاً علىٰ همة النفس، ورفعة الفكر، ورونق الروح، ووضاءة المثل؛ إنه خُلُقٌ قل أن يسلم منه إنسان، أو يخلو منه مجتمع؛ ذلك هو اللغو.
وإن المسلم الحق يجاهد نفسه، ويبذل جهده للترقي لكل محمدة، والبعد عن كل منقصة؛ ولقد أصبح اللغو سمة لكثير من الناس في مجالسهم ومنتدياتهم، ولقاءاتهم ومسامراتهم، وأحاديثهم ومقالاتهم؛ بل حتىٰ سرىٰ إلىٰ بعض الخطباء والدعاة والناصحين بالخوض فيما لا يعنيهم، أو الحديث عما لا يفيد، أو تضييع الأوقات فيما لا يغني، واللغو هو الكلام الذي لا فائدة منه، ولا جدوىٰ له.
ولنبدأ رحلتنا التحذيرية من اللغو مع كتاب الله تعالى:
1/ الإعراض عن اللغو من صفات عباد الرحمن: بيَّن لنا الله تعالىٰ أن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يتلبسون باللغو، ولا يشاركون فيه، فيقول تعالىٰ:(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72].ومعنىٰ قوله: مَرُّوا كِرَامًا، يمرون وهم في حال الكرامة، والبعد عن المشاركة مع أرباب اللغو في لغوهم.
فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسوا بهم، وقعدوا معهم، وشاركوا في لغوهم؛ أما أهل الكرامة فإذا مروا علىٰ أصحاب اللغو تنزهوا بأنفسهم، وترقوا بأخلاقهم عن مشاركتهم؛ والكرامة هي النزاهة ومحاسن الخلال؛ وأصلها نفاسة الشيء في نوعه.
وقال تعالىٰ في وصفه للمؤمنين: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:٥٥].
2/ من تمام نعيم أهل الجنة أن الله نفىٰ عن أهلها سماع اللغو، قال تعالىٰ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّاَ) [مريم:٦٢]، وقال تعالىٰ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة:25-26]، وقال تعالىٰ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا) [النبأ:35]، وقال تعالى: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) [الغاشية:١١].
يا له من نعيم مقيم! إن المؤمنين الجادين، والمسلمين الصادقين؛ تجد أن مما يؤذيهم في الدنيا سماع اللغو، ومجالس اللهو، وإهدار الوقت، وتلطيخ أجواء اللقاءات والمنتديات بكلام تافه، أو لغو بارد، أو لهو مضل، أو زور مقيت؛ لأن الأرواح زكية، والمشاعر نقية، والهمم عالية، ومن كان كذلك فلا أشد عليه مضاضة وهماً وغماً من مجالس اللغو، ومراتع الضياع، فكان جزاء هذا السمو الفوز بجنان عالية، لا يسمعون فيها لاغية.
قال ابن كثير -رحمه الله-: هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنىٰ له كما يوجد في الدنيا. وقال طاهر بن عاشور: واللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته، وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذىٰ المشركين ولغوهم. وقال عن قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا) [الواقعة:25]: أكمل وصف النعيم بذلك، وهي نعمة روحية؛ فإن سلامة النفس من سماع ما لا يُحَب سماعه، ومن سماع ما يُكره سماعه من الأذىٰ نعمة براحة البال، وشغل بسماع المحبوب.
ومن تمام نعيم أهل الجنة أن أهلها يشربون فيها خمراً لا لغْوٌ فيها ولا تأثيم، قال تعالىٰ: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) [الطور:23]، أي أنها لا تذهب بعقولهم فتحملهم علىٰ الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة، والمتضمن هذياناً وفحشاً كما تفعل خمر الدنيا بعقول شاربيها.
وقد حدثنا القرآن عن صفة من صفات الكفار والمشركين وأعداء الدين، وهي أنهم إذا سمعوا القرآن يبتكرون أنواعاً من اللغو ليصرفوا الناس عنه، ويحولوا بينهم وبينه؛ وتلك هي سمة لكل منافق وضال وعدو للحق والهدىٰ أن يشوش علىٰ الكلام الحق بكل سبيل، وكل وسيلة، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26].
أما حينما نتأمل ما ورد في سنة المصطفىٰ -صلى الله عليه وسلم- فنجد أنها أحاديث تؤكد ما ذكره القرآن من أن تركه والبعـد عنه والإعراض عن أربابه سمة من سمات المؤمنين، وصفـة من صفات المتقين.
وكان أول البعيدين عن اللغو والمتنزهين عن أربابه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فعن عبد الله بن أبي أوفىٰ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصـلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة.
وبما أن اللغو يقسي القلوب، ويذهب الخشوع، ويحمل الأوزار، وينقص ثواب الأعمال؛ فقد دل -صلى الله عليه وسلم- أمته علىٰ كفارات لذلك إذا امتثلها المسلم طَهّرت نفسه، وزكّت فؤاده، وأذهبت لغوه.
ومن ذلك الزكاة عموماً، وزكاة الفطر خصوصاً، حيث يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم.
وفي البيع والتجارة قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر التجار! إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة" أخرجه أبو داود وصحَّحه الألباني.
ومما حذر فيه -صلى الله عليه وسلم- من اللغو خطبة الجمعة؛ فاللغو فيها يبطل ثوابها، ويذهب بأجرها، مما يدل علىٰ عظم شأنها، ووجوب الإنصات إليها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة، وَمَسَّ مِن طِيب امرأته -إن كان لها-، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخَطَّ رقابَ الناس، ولم يلغُ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما؛ ومن لغىٰ وتخطَّىٰ رقاب الناس كانت له ظهراً" أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة؛ ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك أَنْصِتْ يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" متفق عليه.
وحينما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن خديجة -رضي الله عنها- قال: "رأيتها علىٰ نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب" أخرجه الطبراني وهو حسن بشواهد.
إنه مما مضىٰ من آيات وأحاديث عن اللغو تَبَيَّنَ لنا خطورة هذا الخلق الذميم الذي يذهب الحسنات، ويتدنىٰ بالخلق، ويهز المروءة، ويتنافىٰ مع سمو الروح، ورقي المشاعر، وتألق المؤمن؛ وإن المجالس قل أن تخلو من لغو، أو تصفو من لفظ، أو تسلم من لهو؛ ولأجل ذلك دلنا -صلى الله عليه وسلم- علىٰ ما يذهب ذلك كله، فيكفر الخطأ، ويمحو الذنب، ويرفع الدرجة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من جلس في مجلس فكثُر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. إلا غفر لـه ما كـان في مجلسه ذلك" أخرجه الترمذي وصححه.
أيها المؤمنون: إذا كانت هذه خطورة اللغو، وتلك سمة أربابه، بغيض إلىٰ الله، بغيض إلىٰ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بغيض إلىٰ المؤمنين؛ نُزِّهَتْ عنه الجنة، وهو مجرد الكلام الذي لا فائدة منه ولا قيمة له، فما بالكم بضياع الأوقات في ذنوب واضحة، ومنكرات بينّة؟ وما بالكم بشغل الجوارح فيما نهىٰ الله عنه، وحذر منه، من معاصٍ بيّنة، وذنوب جليّة، ومنكرات بغيضة؟.
يا الله! كم يضيع من أوقاتنا اليوم! يا الله! كم شغلت أبصارنا وأسماعنا بما يمجه الحق، ويأباه الدين، ويتنافىٰ مع الخلق! إن الحج بشعائره العظيمة فرصة للتوبة والترقي في مراقي الكمال، وإن عشر ذي الحجة، بما هيأ الله تعالىٰ فيها من الخير، فرصـة لاغتنامها في تزكيـة الأرواح، وتهذيب المشاعر.
فلنسمُ بأرواحنا وأقوالنا وأفكارنا ومجالسنا عن كل نقيصة، فالعمر غنيمة، والحياة فرصة، والأنفاس محدودة، والأيام معدودة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق