حديثي اليوم إليكم هو
رفع الستار عن وجه كالح لواقعنا، إنه يكشف عن جرح نازف يكاد يتعفن ويتآكل الجسم
بسببه، مما يطلب تدخلا طبيا سريعا لمعالجته، واستئصال ورمه، وتطهير مكانه.
إنها صيحة نذير، ونداء
غيور، وصرخة محب، إنها التفاتة صادقة إلىٰ واقعنا، وسبر في أغوار حياتنا، الذي
طالما تشاغلنا عنه بأخطاء الغير، ومحاربة الآخر.
إنها شاشة صادقة ننقل
عبرها صورا لبعض الضحايا، ونبذا من أخبار الحيارىٰ، كنت أسمع كثيرا عما يتعب
القلب، ويذهل الفكر، من قضايا وأحداث، وجرائم وأخطار، وما تعج به المحاكم والسجون
والإصلاحيات من صور الأسىٰ والألم، والردىٰ والندم، لكن البعيد مهما حُكي له يبقىٰ
الأمر في ذهنه عند حدود معينة لا يتعداها، فما راءٍ كمَن سمع، وليس الخبر
كالمعاينة.
أتيح لي من خلال لجنة
السعي في العفو وإصلاح ذات البين أن أدلف من بوابة دار الرعاية للفتيات بمكة
المكرمة، وأن أستمع إلىٰ عدد من الفتيات وإلىٰ مشاكلهن، وأسباب وجودهن، وما يختلج
في صدورهن، ولذلك حديثي اليوم هو فقط عن البنات، وما أدراك ما البنات!.
البنات دائما هن
المظلومات في حياتنا، لا من حيث الحديث عنهن، وبيان آمالهن وآلامهن، ولا من حيث
التعامل معهن، ولا من حيث إعطاؤهن حقهن في الحياة، فإن الأولاد يذهبون بالنصيب
الأكبر في كل شيء؛ في الحب، في الثقة، في الإكرام، في الترويح، في اللعب، في
احتمال الأخطاء.
البنات -رغم أنهن مصدر
الحب واللطف والعطف والرقة- إلا أنهن أكثر من يُحرَم من هذه المعاني، فلا يجدن من
يجود بها عليهن في صدق ونقاء.
فهَلْ تحْلُو الحيَاةٌ
بِلا أَريجٍ *** يَفُوحُ عَبيرُهُ في كلِّ ذاتِ؟
وهل تزْهُو الحدائقُ
ليس فيها *** أفانينُ الزُّهُورِ الزَّاكِياتِ؟
البنات رغم أنهن زينة
الحياة، وعطر الوجود، ونور البيوت، إلا أنهن قل أن يجدن من يحافظ علىٰ بريقهن،
ويحترم وجودهن، ويحرص علىٰ تألق نورهن.
البنات -رغم أن الحمل
الأكبر في البيوت عليهن، وهن المعول عليه في مسئوليات المنزل- إلا أنهن قل أن يجدن
من الأب حباً وحناناً، ومن الأم لطفاً وإحساناً، ومن الإخوان احتراماً وشكرانا.
البنات رغم أنهن
الحبيسات في المنازل، والممنوعات من كثير من الموارد، إلا أنهن قل أن يجدن من
يعوضهن عما يفوتهن، ويسليهن مما يُحزِنهن، ويُفرحهن عن كل ما يكدرهن، ويحسسهن
بالاهتمام والرعاية، والاحترام والعناية.
البنات اللواتي هن
أكثر التزاما، وأكثر تميزا في الدراسة، وأكثر تدينا، وأكثر وفاء للآباء، وعطفا
علىٰ الأمهات، إلا أن حظهن قليل فيمن يسبر أغوار حياتهن، ويجلو صدأ قلوبهن، ويتحمل
أخطاءهن، ويقف معهن في عثراتهن، ويستر عليهن، ويراعي ضعفهن وقلة حيلتهن.
إن بث روح الحب
والمودة، واللطف والعطف، هو أمر لا تقوم الحياة الحقة إلا به، ولا تكمل مسيرة
الأسرة إلا به، وليس في غنىٰ عنه لأبناء ولا بنات، ولا أمهات ولا زوجات، وهو
للأسف! ما نشكو من قلته أو انعدامه في مثل هذه الأيام، وإنني هنا قصرت الحديث عن
البنات للأسباب السابقة، وللأسباب التالية:
1/ الآباء يخطؤون
كثيرا إذ يظنون أن تربية البنات هي مسئولية الأم، ولا دخل للآباء بذلك، وهذا خطأ
كبير؛ بل إن البنت يكون حبها لوالدها، واهتمامها به، ومفاخرتها به أكثر من كل شيء،
فإذا ما استغل ذلك ببث المعاني السامية، والأخلاق الزاكية في حياتها، فإن ذلك
أقوىٰ وأجدر.
وإن البنت متىٰ ما
شعرت بوجود والدها، وحبه لها، ومتابعته وحرصه، ففي ذلك -بعد الإيمان بالله تعالىٰ-
أكبر رادع لها عن الخطأ، وأكبر عامر لقلبها عن الفراغ والهوىٰ؛ ومن ربىٰ فاطمة إلا
أبوها؟ ومن ربىٰ مريم إلا زكريا؟ ومن ربىٰ الرباب إلا سعيد بن المسيب؟.
2/ إن الحفاظ علىٰ
البنات والحرص عليهن أهم وأخطر من الحفاظ علىٰ الأولاد، لأن بعض أخطاء البنات لا
تُصلح، وبعض كسورهن لا تُجبر.
إن البنات، وخصوصا في
سن المراهقة، تكون نفوسهن شفافة مرهفة بريئة، قليلة الخبرة في الحياة، ينظرن لها
بمنظار وردي جميل، ينظرن إلىٰ الحياة علىٰ أنها حب ووفاء، وزينة وسعادة؛ لأنهن لم
يطلعن بعد علىٰ الجانب المظلم فيها، المفعم بالخداع والظلم والمكر والدهاء.
وقد تسمع الفتاة من
كلمات الغرام والهيام ما يمتلك عواطفها، ويلهب مشاعرها، فتساق وراءها فتفاجأ
بكوارث لا قبل لها بها؛ وبدلا من أن تجد مَن يقف معها، ويقيل عثرتها، ويقبل
توبتها، نجد عكس ذلك تماما، نجد من القسوة والتعنيف ما قد يصل إلىٰ حد التفكير في
القتل أو الإبعاد والنفي.
ولو تابت بعد ذلك توبة
فقسمت علىٰ أهل الأرض وكفتهم لما قبلها أبوها أو أخوها! بل قد تجد الوالد أو الأخ
يغمس في بحور من الآثام، فإذا ما وقعت البنت في خطأ فقد وقعت السماوات علىٰ الأرض،
وأذنب الذي لا يُغتفَر ذنبه، خطأ الأولاد مقبول، واعتداءات الشباب مسوغة، أما
البنت فكأنما هي فوق الضعف البشري لا يُتوقع منها زلة، ولا يبدر منها خطيئة، مع
أنها الأضعف، والأكثر عرضة للتغرير بها، واللعب بعواطفها، والضحك علىٰ مشاعرها.
ولم يرد في الشريعة،
أو في الكتب السماوية، أن جرم المرأة أضعاف جرم الرجل، وأن الخطيئة منها بألف
خطيئة للرجل؛ بل ورد الرفق بهن، واتقاء الله فيهن.
ولما ورد من أسبابٍ،
وغيرها كثير لم يذكر، جعلت هذه الرسالة موجهة للحديث عن البنات، وأقول البنات دون
النساء؛ فإننا لو أردنا أن نتكلم على النساء عموماً أو على سجون النساء وما تعج به
من المآسي لاحتجنا إلىٰ جلسات كثيرة، ولبكينا بدل الدموع دما.
إن المتأمل لأحوال
البيوت، وأسرار الأسر يرتجف قلبه، وتهتز مشاعره، ويقض مضجعه، ويتجافىٰ عن الفراش
جنبه، لقد بدأنا نهدَّد بتهدُّم أسري مخيف، وتهتُّك اجتماعي مذهل؛ لقد بدأت أواصر
المودة تتفكك، وعوامل المودة تتحطم، وأسوار المحبة تتهدم، وأستار الأسر تتمزق.
لقد غابت مفاهيم التربية،
وتكثفت معاول الإتلاف التي بدأت تروح ضحيتها الأسر، إما بتفرق الزوجين، وإما بضياع
الأولاد، وإما بفساد البنات، وإما بتلاشي روح الدين والحياء والغيرة، وحديثي -كما
ذكرت- هو عن ضحية واحدة من ضحايا تهالك التربية، وتفاقم البلية، وهن البنات.
تعج دار الرعاية
بفتيات كئيبات حزينات، يفترشن الدموع، ويلتحفن الأسىٰ، ويقتتن الكآبة، بل يقتتاهن
الألم؛ لو أتيح لدموعن أن تجري لسالت أودية بِقَدَرِهَا، بنات حزينات بئيسات،
جميعهن في أعمار الزهور، وفي سن الشباب والحيوية، حكمت عليهن الظروف، وخدعتهن
الصروف، فنُبِذْن من المجتمع، وطردن من القرابة، مع أنهم في أكثر الأحيان هم السبب
الحقيقي وراء ضياع الفتاة، وفساد المرأة!.
أيها الأحبة: لقد
استمعت إلىٰ قصص ومآسٍ لو تليت علىٰ الصخور الصماء لخشعت وتأثرت، ولقد وقفت علىٰ
مآلم إذا سمعها القلب الحي تفطر وتمزق.
إن هنالك فتيات وقعن
في بعض المعاصي والأخطاء، فكانت النتيجة أن إحداهن لها سنتان أو أكثر لم يسأل عنها
أحد، ولم يزرها أحد؛ وأن بعضهن يرفض والدها استلامها أو قبولها بعد ذلك.
وإن بعضهن ترفض الخروج
لأنها تعلم أن القتل ينتظرها، أو حياة الذل والظلم والقهر؛ وإن بعضهن ترفض الخروج
لأنها تخشىٰ هي أن تنتقم لنفسها بقتل، فتفضل البقاء سجينة حتىٰ لا ترتكب بسبب
الذنب ذنبا أكبر منه.
والأدهىٰ من ذلك كله،
والأمَرّ منه جميعه، أن عدداً من الفتيات لسن ضحايا مجرمين أو معتدين بعيدين، بل
هي ضحية لأقرب قريب، ومعذرة فليس كل ما يعلم يقال، ومعذرة فإن هنالك فضائح ومخاوف
لو تلوتها لخشيت أن يغمىٰ علي، أو أسقط من علىٰ منبري.
يا الله! يا الله!
اللهم الطف بنا، اللهم الطف بنا! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا
مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
مآسٍ ومآلمُ، ومخاوف
ومخاطر منذرة بهلاك، مهددة بدمار، ووراء وقوعها أسباب كثيرة، ودوافع خطيرة، منها:
1/ النظرة الدونية عند
كثير من أفراد المجتمع للمرأة، فكثير منهم لا زال يعامل المرأة معاملة جاهلية لا
يقيم لها اعتبارا، ولا يُكِنُّ لها احتراما، ولا يقدر لها جهدا، مما يدفع بكثير
منهن إلىٰ الجريمة نتيجة للقهر واليأس.
2/ طمع كثير من الآباء
في رواتب البنات الموظفات، وحرمانهن من الزواج للاستفادة من الراتب، ولدينا كثير
من القضايا لفتيات جاوزن الأربعين بسبب منع الآباء من تزويجهن.
3/ بعض الأعراف
والعادات القبلية التي تمنع زواج البنات من غير قبيلتها أو فصيلتها؛ فهناك كثير من
الفتيات يتقدم لهن أزواج، لكن يواجهون بالرفض للأسباب المذكورة، فتحرم البنت من
الزواج والسعادة نتيجة لهذا الشرط الآثم الغاشم، الذي ما أنزل الله به من سلطان.
4/ من أعظم الأسباب
ظلم الآباء، وخصوصا الذين يتزوجون من زوجات متعددات، أو يطلقون الأمهات ويتزوجون
بأخريات، فيكون الضحية البنات، حيث يحرمن تربية الأب وعطف الأم، بل ويفاجأن بزوجات
للآباء حاقدات فظات غليظات.
5/ قلة التربية؛ فكثير
من البنات ينشأن في بيوت لا تعرف عن التربية أو الدين شيئا، بل علىٰ العكس من ذلك
يجلب لهن كثير من المفاسد والمتالف الأخلاقية.
6/ حرمان البنات
بالذات من وسائل الترويح المحتشمة، ومن الترفيه عنهن، والتنزه بهن، والسؤال عن
مطالبهن وآمالهن وآلامهن، وكأنما وجدن في الحياة للسجن داخل البيوت دون مشاركة في
فرح أو رأي أو تقدير.
7/ قلة وجود المربين
والمربيات، والدعاة والداعيات، المتنورين الهينين اللينين، القريبين من المجتمع
وقضاياه، المتزودين بزاد من علم الشريعة والتربية وتزكية النفوس؛ وقلة البرامج
التي تخدم هذه المآرب.
8/ السم الزعاف الذي
يتسلل إلىٰ العقول والقلوب، فيقضي عليها، وهو الهاتف، وترك حبله علىٰ الغارب.
9/ وهذا أدهىٰ
الدواهي، وأخطر الأسباب، إنها القنوات الفضائية، وما تبثه من وُحول الخنا، ومناظر
الفحش، ومشاهد الفجور، والتغرير بالشباب والبنات.
إنني أنادي الآباء
والأمهات إلىٰ التفافة صادقة إلىٰ أبنائنا وبناتنا، إلىٰ متابعة لسلوكهم، ومراقبة
لأخلاقهم؛ إلىٰ إشاعة جو الحب والتعاطف والتفاهم فيما بين أفراد العائلة لتسعد به
القلوب، ويزال به اللغوب.
إنني أدعو الآباء
والأمهات إلىٰ بث روح الدين، وإشاعة روائع الخلق، وزرع مهابة الله ومراقبته في
نفوس الأبناء والبنات، وإبعادهم عن مراتع الردىٰ، ومتالف الخنا؛ وعدم جلب قنوات
الضلالة، وشاشات الفساد للبيوت.
إنني أدعو إلىٰ إضفاء
عطر الحنان، وعبق الحب، وأريج العطف للبنات بالذات، مع بيان المخاوف والمخاطر
والمتالف التي تترصد لهن.
إنني أدعو العلماء
الصادقين، والدعاة المخلصين، والمربين الغيورين، والمثقفين المحسنين، أن نلتفت
جميعا التفاتة عازمة جازمة حازمة إلىٰ هذه المخاطر المدمرة، والسيول المزمجرة،
فنسخِّر كل طاقاتنا وإمكاناتنا وعلمنا ومعرفتنا وتربيتنا للذب عن حياض أبنائنا
وبناتنا؛ لننقذ الأسر من خطر محقق، لننتشل البيوت من مكر مكثف، ولنحصن المجتمع من
سرطان خبيث، لو انتشر في جسمه لقضىٰ عليه.
إنني أنصح لكثير من
الناس الذين اشتغلوا بعيوب الآخرين، أو التصيد للأخطاء، أو المهاترات الفارغة، أو
الردود الباهتة، أو الكلام في فلان وفلان، أو تقويم فلان ونقد فلان، وتبديع فلان
وتفسيق فلان بغير حق، أنصح لهؤلاء جميعا أن يلتفتوا إلىٰ مجتمع يترقب جهدهم، وإلىٰ
ملهوفين يرجون إغاثتهم، وتائهين يأملون في إرشادهم.
إننا أمام ريح عاصف،
وموج قاذف، وخطر زاحف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! (ظَهَرَ الْفَسَادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق